وجهة نظر

عصيد ومغالطة رجل القش

لأمرٍ ما كان الحكماء يُدرسون طلبتهم المغالطات المنطقية قبل تدريسهم القياس المنطقي، ولعل ذلك بقصد تحصينهم من التفكير المغالطي الذي يفسد المعرفة ويسئ إلى أخلاق العالم والمتعلم على السواء، كما يشوش على أفكار الناس وأخلاقهم. ولذلك كان سقراط وأفلاطون وأرسطو يكرهون السفسطة منهجا في التفكير، ويواجهون تجلياتها في الواقع.

لكل زمان سوفسطائيوه، الذين يحترفون التغليط ويفضلونه على وسائل الإقناع المعقولة، لا لشيء إلا لأنَّ قلوبهم أُشربت السفسطة، فلا تقبل عنها بديلا. ومن هؤلاء عندنا في المغرب الأستاذ أحمد عصيد، فهو واحد من هؤلاء الخطباء السوفسطائيين الذين يحضرون في جميع المواسم ويتحدثون في كل المناسبات، بنفس الطريقة ولنفس الهدف. اطلعت على بعض مكتوباته في بعض المواقع الإلكترونية، وكان آخرها بعنوان “الوباء والدعاء” نشره يوم الثلاثاء 17 مارس 2020، يتهم فيه المسلمين بتهمة “الدعاء” من أجل الشفاء من الوباء!

في هذا المقال اختارَ أن يتهجمَّ على العقل المسلم الذي لا يزال يؤمن بـ”خرافة” الدعاء والقرابين والكهنة…واتخذ من كلمة/فيديو للأستاذ محمد عبادي نشرها في صفحته، وذاك عن طريق اجتزاء مقاطع منها، يبين فيها كيفية تعامل المسلمين مع الأوبئة والكوارث، بدءا بالدعاء وحسن الظن بالله والتضامن والتعاون ورد المظالم…الخ، حيث عمد عصيد كعادته في نقد أفكار خصومه إلى انتقاء جملٍ قصيرةٍ مبتورةٍ من سياقاتها، ولا يقف عند هذا الحد بل يؤولها تأويلا باطنيا غريبا عن جميع مناهج التأويل في حقول المعرفة البشرية.

عندما قال الأستاذ عبادي في الشريط: “هذه الأوبئة التي تفتك بآلاف وملايين البشر هي جند من جنود الله، فالأصل في خلقتها أن تكون في خدمة الإنسان، فلماذا تثور في وجهه؟ تثور في وجهه عندما يتخلى الإنسان عن وظيفته، فتغضب لله وتنتقم لله، فهي جند من جنود الله، يسخرها الله سبحانه ليؤدب بها الإنسان ليرجع إلى مولاه، فظاهرها نقمة ولكن في طيها نعمة، فهي من رسائل الله سبحانه وتعالى التي تدعو الإنسان إلى أن يرجع إلى ربه ليسعد دنيا وآخرة”.

اجتزأ عصيد التالي: “فعبادي في نظره يعتبر أن “الأوبئة جند من جنود الله (…) تغضب لله وتنتقم له (…) يسخرها الله ليؤدب بها الإنسان ليرجع إلى مولاه”. وفسره بقوله: “أي ليمارس وظيفته الحقيقية حسب هذا التيار والتي هي العبادة.” انتهى كلامه. ثم انتقل إلى استخراف التفكير الإسلامي كعادته.

أقول: هل من يعتبر أن وظيفة الإنسان في الحياة هي العبادة مجرد تيار؟ أوليس هو المجتمع المغربي؟ أو ليس هو أمة بل أمم؟ وهل يضر هذا القول أصلا بمصلحة أحد؟ وهل يستعدي السلطة التي تقدم لها رقاب الآخرين قرابين؟

هذا الكلام صنع منه عصيد أربع أفكار، أذكرها مختصرة:

• فكرة أولى، مفادها أن تفسير ظهور الأوبئة بغضب الآلهة هو تفسير سحري وأسطوري ضارب في التاريخ الخرافي، حيث يعود إلى زمن ما قبل الحضارة وما قبل العلم. كما أن تيار عبادي في نظره يؤمن بأن وظيفة الإنسان الحقيقة هي عبادة الله!

أولا لا ندري هنا من أين سرق عصيد هذا التحقيب “العلمي جدا”؟ وكيف عرف ما قبل العلم وما بعده؟ وما قبل الحضارة وما بعدها؟ هل من فرضيات أوغست كونت فيما يسميه بقانون المراحل الثلاث للفكر البشري أم من غيره؟

ثانيا: لم أكن أعلم أن عصيد يجهل بأنه كما لا يخلو التاريخ من حضارات متعاقبة لا تخلو حضارة من دين ولا يخلو دين من علم، كما يؤكد كبار علماء الاجتماع (دوركايم في “الأشكال الأساسية للحياة الدينية” مثلا). فكيف يعتبر الدين مناقضا للعلم، وأن التفسير الديني كان قبل ظهور العلم؟ وأن التفسير الديني كان قبل الحضارة؟ أليس هذا التفسير الديني نفسه علما من العلوم؟ وعند جميع الأمم؟ ولكل علم منهجه وأدواته وموضوعه بالطبع. وأخيرا هل هناك تاريخ خطي تنتقل بموجبه البشرية من مرحلة إلى مرحلة أخرى، تلغي اللاحقة فيها السابقة؟

• فكرة ثانية، القول باستحالة الجمع بين اعتبار الأوبئة من غضب الله وأخذ الاحتياطات لمكافحة الوباء، لأن ذلك في نظره تناقض، إذ لا أحد يستطيع مواجهة غضب الله!

الحل في نظر عصيد أمام استحالة الجمع بينهما (التفسير الغيبي والمواجهة بالأسباب المادية) هو التخلي عن الأول لصالح الثاني، أي التخلي عن القول بنسبة الوباء إلى غضب الله، لصالح تفسير “العلم”، والعلم عنده كما رسَّخ عند بعض المنتسبين زورا إلى مثقفي اليسار العربي أرنست رينان يعارض الدين. ولا يتصور إمكان الإيمان بأن الكون بيد الله يفعل في ملكه ما يشاء، وبين النهوض للعمل ومقاومة الظلم والبحث عن العلاج والأخذ بالأسباب. وهذا القصور في النظر هو الذي جنى عليه. فأمر الله القدري جارٍ وفق حكمة ربانية لا يعلمها البشر (إذا كان عصيد يعلمها فليخبر العالم بها) ولكن أمر الله الشرعي تكليف للإنسان بالعمل والاجتهاد واتخاذ الأسباب. ولا مانع في العقل من الجمع بين الإيمان بالقدر والقيام بالأمر. والعالم اليوم يؤمن بغضب الطبيعة مثلا، ويعمل على تطويعها في نفس الوقت. أين المشكل؟ وهل ترك من الحمق شيئا من يرى القعود والانزواء والدروشة وترك الأسباب حلا لمشكلاتنا؟

أما الأستاذ عبادي فقد ركز في كلامه على التهمم بأمر الإنسانية وخدمتها والتعاون على الخير، ونبه إلى ضرورة القيام بالأسباب اللازمة لمواجهة هذه النازلة الخطيرة، يقول: “إذا كانت هذه الكوارث مما جنته يد الإنسان، فما المطلوب منه؟ التوبة إلى الله عز وجل والرجوع إليه، توبة جماعية، بعض الناس يلقون التبعات على الآخرين، فيقولون: المجرمون والفسقة والظلمة والكفرة.. فعلوا ونحن نصاب بما اكتسبته أيديهم، هذا فيه نوع من تزكية النفس، فعلى كل واحد منا أن يرجع اللوم إلى ذاته، ويقول: لعلني السبب فيما وقع للناس من هذه المصائب، في جر هذه المصائب على البشرية، كل واحد يتهم نفسه”.

إلا أن الموقف العصيدي في أغلب مكتوباته أراه متواترا في العِداء لدين الإسلام فقط دون غيره من الأديان، إذ لم أعثر شخصيا على مقال له ينتقد فيه دين اليهود ودين النصارى ودين الكونفوشيوس …كما ينتقد دين المسلمين. وهذه عادة اليسار العربي عموما كما لاحظ أبو يعرب المرزوقي.

فلا يجوز في نظر هؤلاء الأراذل من المتفلسفة بلغة ابن رشد نسبة خلقٍ ولا أمرٍ لله، ولا يعقلُ عندهم ذكرُ الله في الأفراح ولا في الأتراح، ولا يُنسب لله خير ولا شر، والفاعل لكل شيء والقادر على كل شيء هو الإنسان. أما الوجود الموجود والمحسوس فهو أشياء وعلاقات ونُظم وأجساد تلتهم الطعام والشراب وتفنى! ليس إلا.

وأمام آيات قرآنية كثيرة وأحاديث نبوية صحيحة تتحدث عن تسخير الله تعالى للكون، وإرساله للآيات وتسليط بعض جنوده لمهمات يحددها بأمره، مثل قوله تعالى: “فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون” (فصلت:16) يتولى عقل عصيد إلى سفسطة علمو-إيديولوجية ترى أن العلم تجاوز الدين جملة ولا مجال للتفصيل أو التفسير.

فكرة ثالثة، عملا بمغالطة رجل القش (Straw man) المشهورة أو مغالطة تشويه الحجة للرد عليها يتصور الأستاذ عصيد أن الإسلاميين يدعون المغاربة إلى التواكل وعدم اتخاذ الأسباب، ومنها التخلي عن الاحتياطات الواجبة لمواجهة الوباء، والاكتفاء بالدعاء. فهو ينسب للإسلاميين دعوى باطلة تقول أن: “الأبحاث التي تجري حاليا على قدم وساق في مختبرات العالم المتقدم، في تنافس كبير نحو اكتشاف اللقاح الضروري، هي مجرد جهود ضائعة، كما أنها تحدي سافر للإرادة الإلهية، واستخفاف بغضب الله علينا ورغبته في الانتقام منا.” حتى يجد من يصدقه، من يتفق معه في الرد عليها. وهذا بهتان مبين، وهذا فيه تضليل للرأي العام وتقويل الناس ما هم منه برآء، إذ لا أحد من المسلمين يقول بذلك، اللهم مسلما متخيلا في عقل عصيد وأمثاله يريد أن يتخذه مثالا لنقده.

أما الدعاء فهو مخ العبادة في جميع الأديان، وترامب نفسه جعل يوم 15 مارس خاصا للدعاء بأمريكا، فلا دين بلا دعاء، ومن معاني الصلاة الدعاء، ولا إيمان بلا دعاء، فالعالم كله يدعو إلا الطائفة العصيدية، أما الذين يؤمنون بالله ورسله فيدعونه رغبا ورهبا بكل تضرع وتواضع وافتقار. وهذا ليس كسلا ولا بطالة ولا يتنافى بتاتا مع العمل والإنجاز. وقبل ذلك يبقى من حق الناس أن يخشوا على أنفسهم مما كسبت أيديهم وأيدي غيرهم، وأن يخشوا ربهم من عصيانهم له وارتكابهم للآثام أو ارتكاب غيرهم.

• وفكرة رابعة، وهي تحريض الدولة على الإساءة للمخالف في الرأي، إذ قال عصيد: “إن المزايدة على السلطة في هذا الظرف العصيب بهذا الأسلوب الخرافي بعيدا عن الواقع والحسّ المواطن”، فأين هي المزايدة؟ ولماذا على السلطة؟ والظرف عصيد عفوا عصيب! والمغاربة من غير استثناء تجندوا لمكافحة الوباء.

والحقيقة أنها لا توجد أية مزايدة في كلام الأستاذ عبادي وهو يذكر المغاربة بضرورة التفاني في القيام بالواجب الإيماني والأخلاقي تجاه جائحة خطيرة تهدد الجميع؟ بل هو من العلماء الأوائل الذين تفاعلوا إيجابا مع الحدث، حيث قال: “مما يتطلبه الموقف أن نرد المظالم، أن نصطلح فيما بيننا، وأن يرحم غنيُّنا فقيرَنا…”، فهل رد المظالم والتصالح والتراحم بين الناس وإغاثة المحتاج خرافة؟

وكيف يُقحم صاحبنا الحداثي جدا سلطة الدولة ويدعوها إلى “الحدّ من أضرار المواقف المتشدّدة على الرأي العام والمجتمع المغربي”؟ هل بمضاعفة الحصار الذي يعترف به صاحبنا ويحرض عليه في نفس الوقت؟

هوِّن على نفسك أستاذ عصيد، فالكائنات التي تتحدث عنها حاضرة في المجتمع بقوة تربويا وعلميا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا، وكتاباتها منشورة وخطاباتها واضحة، ونضالها من أجل القيم النبيلة: العدل والحرية والكرامة، يعرفها القاصي والداني. ولن تستقوي عليها بقش مغالطة ولا بقوة سلطة.

استنتاجات

• عصيد كعادته، يحترف الاستدلال الفاسد ويقوم بتحريف كلام المحاور وتأويله، أو اقتطاع جزء منه، ليصنع منه دعوى هشة يسهل إسقاطها، فهو يلملم بسفسطته فزاعة من القش ويهاجمها ليسهل تصديقه، ولا يقوى على مناقشة الدعاوى الحقيقية كما هي. وهو ما فعله مع عبادي والريسوني وغيرهما، وتبعا لذلك لا يتحرى الدقة في الاستشهاد، فهو يسرق من موضوع نقده ما يفي بغرضه، ويضرب بباقي الكلام عُرض الحائط.

• عصيد وإن سبق له أن درَّس الفلسفة في التعليم الثانوي فهو لم يستفد منها إلا أسوء ما فيها، إذ أعماه ظلام الإديولوجية عن نور الحقيقة، إذ الحقيقة نور تفرض نفسها على كل من رآها كما يؤكد باروخ اسبينوزا. وما ناضل الفلاسفة في تاريخ الفلسفة مثل نضالهم ضد السفسطة وحشو العلم بالأوهام والإديولوجيا.

• أمام الوضع الخطير الذي يوجد في الواقع اليوم، وقد أصبحت أقوى الأنظمة الصحية في العالم عاجزة مطلقا عن مواجهة فيروس لا يرى ويظهر أثره، لا يجد أمثال عصيد إلا التشكيك في الدين واتهام الإسلام بالخرافية والرجعية والأسطورية، وكل شرور الدنيا بسبب الإسلاميين…المتهمين ابتداء ودائما. ولا تنتظروا منه غير هذا دليلا.

• تاريخ الإنسانية لم ينته بعد، فهو تاريخ آلام وآمال، لا يكاد الإنسان يطمئن حتى تفاجئه أحداث مستجدة، تهدده بالهلاك، كما يرى صاحب رواية “الطاعون” ألبير كامو. فالخوف جزء لا يتجزأ من كياننا ومن واقعنا، ومع الخوف نحب ونكره، نتفاءل ونتشاءم، نُقدم ونحجم، ونحن نبحث عن سعادة نريدها ونطلبها، بعضنا معتقد في الدين طريقا وبعضنا مقتنع بالفلسفة طريقا كما يرى لوك فيري في أحسن قصة في تاريخ الفلسفة. وضامن الحقيقة هو الله كما يقول ديكارت صاحب كتاب “قواعد لهداية العقل”.

فاللهم اهد عقولنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *