من العمق

صناعة الأزمة السياسية والمقامرة بصورة المغرب

حالة من الضبابية وعدم الفهم عمت في الآونة الأخيرة المشهد السياسي والحزبي بالمغرب، وانطلق الحديث عن وجود أزمة سياسية من عدمها، وطرحت أسئلة حول حقيقة تأثيراتها وأفقها وصانعيها، هذا الملف يرصد خطاب الأزمة ويعرضه على مشرحة المحللين والمهتمين، فكان جوابهم عن أسئلة الأزمة بين الحقيقة والاصطناع، وكذا عن توصيف الحالة التي يمر منها المغرب إن لم تكن أزمة سياسية، وأيضا عن السيناريوهات التي يرونها سبلا للخروج من الوضع الحالي، كما ساءلوا حزب الاستقلال كفاعل سببي في اصطناع هذه الأزمة، والخلفيات والحيثيات التي حكمت قراره الموقوف التنفيذ بالانسحاب من الحكومة، خاصة بعد أزيد من شهر من انتظار التحكيم الملكي الذي يؤكد كثيرون أنه بات جد مستبعد لكون حزب الميزان طرق الباب الخطأ باللجوء للفصل 42 من الدستور، مما عمق من مأزق حزب الاستقلال وأمينه العام وهي “الحصلة” التي يبحث لها اليوم عن مخرج.

هل يعيش المغرب أزمة سياسية؟

هذا هو السؤال الذي طرح على أكثر من باحث وسياسي ومهتم، فكان الجواب المجمع عليه على اختلاف توجهات ومواقع المسؤولين هو ألا أزمة سياسية بالمغرب، وأن كل ما هنالك لا يتجاوز أزمة حكومية، أو خلافات عادية داخل الأغلبية، ويقدمون لذلك كمؤشرات استمرار العمل الحكومي، وعدم توقفه من خلال استمرار انعقاد المجالس الحكومية، وعدم تقديم أي وزير لاستقالته أو حتى مجرد التعبير عن ذلك، فضلا عن كون حزب الاستقلال أحد من حمله أكثر من مسؤول حكومي وغيره -مسؤولية التصدع والتشويش ومحاولة إرباك عمل الحكومة- ما يزال فريقاه بمجلسي النواب والمستشارين بالجلسات العامة ولقاءات اللجن يصوت مع الأغلبية، بل منهم من يتطرق إلى موضوع غياب الملك لما يقارب الشهر وما حصل من استمرار عادي لعمل مؤسسات الدولة.

ذات الباحثين والسياسيين أكدوا ل “التجديد” أن الحديث عن الأزمة السياسية ممكن عندما تعدم الحلول والمخارج والخيارات لمشاكل ما، وتصل حد عدم قدرة الإطارات المؤسساتية والقانونية وخاصة منها الدستور على استيعاب هذه الإشكالات، وهي الحالة التي تنتفي بشكل تام في الوضع الراهن، هو الرأي الذي ذهب إليه الوزير الحركي لحسن حداد، كما يمكن الحديث عن الأزمة الحكومية كما يعتبر الاستقلالي مولاي امحمد الخليفة وهو القائل بألا أزمة هنالك في الأصل لا سياسية ولا حكومية، أن لا التلويح ولا الإعلان أو حتى اتخاذ قرار بالانسحاب من حكومة ما يشكل في حد ذاته أزمة حكومية، وأن المجتمعات الديمقراطية تكون أمام ما يمكن وصفه بأزمة حكومية عند استقالة وزراء حزب معين من حكومة ما، ويعجز رئيس الحكومة عن إقناع ذلك الحزب المنتسب إليه أولئك الوزراء في البقاء في مناصبهم، أو يعجز في تكوين ائتلاف جديد مع حزب أو أحزاب أخرى.
ليس هناك إذن لا أزمة سياسية ولا هم يحزنون، خاصة يشرح الباحثون أن الخلاف ليس حول القضايا السياسية الكبرى بالمغرب، من قبيل رؤى واختيارات متناقضة في قضية الصحراء كقضية أولى في الاهتمام، ولا في تنزيل الدستور، ولا في خوض العديد من الإصلاحات الكبرى والمهيكلة كإصلاح العدالة والمقاصة وصناديق التقاعد وغيرها. وما يقع هو شيء آخر أقل من توصيف الأزمة.

ماذا يقع إذن؟

الذي وقع ويقع أنه منذ أن هبت رياح الربيع الديمقراطي على المغرب وتفاعل مع ذلك بطريقته الخاصة وقع ما يشبه الإجماع أو هكذا بدا حول ضرورة الإصلاح العام في ظل الاستقرار، ولكن بقي السؤال مطروحا حول مدى هذا الإصلاح وأفقه ومدته ومن يقوم به…، وهو ما يرى عدد من المحللين أن تعدد تعبيرات الإصلاح وأفقه انعكس على الواقع السياسي، وهو يتجلى اليوم بشكل أساس في جهة تسعى جاهدة للتشويش عن مسار الإصلاح ولما لا الارتداد عليه، أو على الأقل عرقلته ومحاولات إرباكه والتشويش عليه.

هذا التوجه سيتأكد في صلة بالحكومة منذ شهر شتنبر 2012، حيث انتخب حميد شباط أمينا عاما لحزب الاستقلال خلفا لعباس الفاسي بطريقة قال عنها مناضلو وقيادات من حزب الميزان قبل غيرهم إن موازين عدة اختلت، وأسئلة كثيرة تطرح على طريقة وصوله إلى قيادة الحزب، هكذا يرى الكثير من المحللين أن ما يحدث لحكومة السيد عبد الإله ابن كيران هو انعكاس لتناقضات حزب الإستقلال الداخلية الناتجة بالخصوص عن تعقيدات وملابسات شروط انبثاق القيادة الحزبية الجديدة، وما تخللها من مساوامات وتحالفات اقتضت، -وهذا أمر مؤسس- أن تربط مصير الحكومة بمصير تلك التحالفات والتعاقدات. وبما أن الأمور جرت بطريقة غير مبدئية وغير وطنية، فهاهي ذي تنعكس خارجة من الحزب إلى الحقل العام وأهمه الحكومة.

وهو الرأي الذي رجحه المحلل السياسي عبد الصمد بلكبير، وعن ذات التحليل لم يذهب القيادي الاستقلالي البارز مولاي امحمد الخليفة بعيدا، واعتبر أن ما يحدث لا يتجاوز كونه بالون اختبار لرباطة جأش رئيس الحكومة في التعامل مع تصرف سياسي يندرج في خانة استهداف شخص رئيس الحكومة وتشويه صورته وأدائه في أعين الشعب المغربي، وكذا لتبخيس تجربته الحكومية لإلهائه ووزرائه عن العكوف على إيجاد حلول ناجعة وسريعة لمعضلات المغرب، وذلك بما يشل عمله ويحرمه من تصدر الانتخابات القادمة، وهو ذات التوصيف الذي سبق لأكثر من قيادي بحزبي العدالة والتنمية والتقدم والاشتراكية واليوم من الحركة الشعبية أن عبرا على أن ما يحدث هو جوقة من التشويش الذي يريد إرباك عمل الحكومة وعرقلة ما يمكن عرقلته، في أفق حالة “بلوكاج” عامة، وهي المحاولات التي تؤكد رئاسة الحكومة أنها لم ولن تنطلي لا عليها ولا على الشعب المغربي، الذي بات يميز اليوم الخبيث من الطيب والغث من السمين.

شباط في مأزق “وافكها يا من وحلتيها”

يسجل كثيرون اليوم أنه بات من الواضح أن شباط أحرق كل أوراقه، وأن من أوعز له بمثل هذا التحرك عليه اليوم أن يبحث له عن مخرج من المأزق الذي وضع نفسه وحزبه فيه، كما ذهب إلى ذلك كل من القيادي بحزب المصباح عبد العزيز أفتاتي، وهو ذات المأزق الذي يؤكده أستاذ العلوم السياسية محمد زين الدين في هذا الملف، أحد خبراء الشأن السياسي بالمغرب قال ل “التجديد” إن من حرك شباط طلب منه السير بسرعة متوسطة في تشويشه على حكومة عبد الإله ابن كيران، غير أن شباط ضغط على البنزين إلى أقصى حد، فأدخل مركب الحزب الذي يقوده في الحائط، أو دخل به على الأقل في اتجاه مغلق لم يعد مسموحا بالتقدم فيه، مما يتطلب منه لا محالة التراجع إلى الوراء، والبحث عن مخرج لهذه “الحصلة”.

وهنا يرى امحمد الخليفة وآخرون أن خطوة طلب الوزراء الاستقلاليين أو المستوزرين باسمه للاستقالة من الحكومة بات دينا يطوق عنق شباط وعليه تنفيذه بما يحفظ ما تبقى من دم وجه حزب علال الفاسي، فيما يرى آخرون أن باب العودة للمفاوضات مع رئيس الحكومة وأحزاب الأغلبية ما تزال مفتوحة، لكن ستكون بشروط أقل، وبوضع مختلف، بعد كل هذه الجوقة والتطبال والتغياط والضجيج والجعجعة التي لم تنتج طحينا كما سبق لابن كيران أن عبر، أكثر من ذلك أن أحد قادة العدالة والتنمية اليوم طالب بأن يعتذر شباط أولا قبل العودة لطاولة المفاوضات، وهو ذات المنحى قد تتقاسمه معه قيادة التقدم والاشتراكية بعد ما نالهم من السباب والتشهير، بل إن لحسن حداد عن الحركة الشعبية قال ل “التجديد” إن وضوح المواقف أصبح مطلبا ملحا، وأن الشوشرة ينبغي أن تتوقف.

ضغط آخر يتعرض له شباط اليوم من طرف أعضاء الحزب الذين ملوا من جواب “مازلت انتظر الاتصال الملكي” بعدما شُكك في وجود اتصال أول من الأصل، وكثر السؤال حول صورة الحزب ومستقبله، خاصة أن الكثير من الأمور دخلت دائرة الجد ولم تعد مجرد تصريحات هنا وهناك، وهنا يفسر كثيرون ما يحدث وما سيحدث داخل الحزب من تصدع، بأنه قد يصل إلى الانقسام بالنظر لطبيعة الحزب وتركيبته وشبكة علاقاته، والمصالح التي راكمها طيلة سنوات من تواجده بالحكومة.

هكذا أصبح أمين عام حزب الميزان في وضعية مثيرة للشفقة ولا يحسد عليها، وقد عزتها بعض الآراء إلى كون شباط لم يعرف أو لم يصدق حقيقة حزب العدالة والتنمية وقائده الأول، وما يتمتعون به من مصداقية وقوة في الموقف وعزيمة في الإصلاح لا تلين، وتابعت ذات الآراء بأن صاحبنا ظن أنه أمام بنية يحكمها نفس ما يحكم حزبه وهيئاته، وأنه كما فعل بزعماء نقابيين وسياسيين بطرق أصبحت مفضوحة سيكون له نفس الأمر في تعامله مع حزب العدالة والتنمية، لكن “الصدمة كانت قوية” كما غنى عبد الهادي بلخياط يعلق آخر.

سيناريوهات الخروج من الوضع

للخروج من الوضع الحالي لا تختلف آراء المحللين والمهتمين عن ثلاث سيناريوهات أساسية: أولها الذهاب إلى تعديل حكومي واسع أو جزئي، ويذهب أصحابه إلى أن الأمر طبيعي في مختلف التجارب بالعالم، وأنه فرصة لاستدراك ما قد يبدو من ضعف في أداء بعض الوزراء، أو بناء على مراجعة حصة كل حزب بالحكومة، فضلا عن كون التعديل كان المطلب الأساسي لأمين عام حزب الاستقلال منذ انتخابه، بل أصبح لديه غاية في حد ذاتها كما ذهب لذلك كثيرون، وبالتالي يرجح أصحاب هذا الحل أنه لا خيار للحلفاء غير العودة لطاولة المفاوضات، وأن حملة التشويش والعرقلة التي انخرط فيها أمين عام الاستقلال قد بلغت مداها، ولم يعد ممكنا أن تتجاوز ما بلغت إليه.

السيناريو الثاني: يؤكد أصحابه أنه يتجاوز التعديل الحكومي إلى ضرورة تنفيذ حزب الميزان لتهديده بالانسحاب من الحكومة، والذي لم يتحول اليوم إلى قرار ساري المفعول بعد شهر من التلويح به، وذلك بأن يطلب من وزرائه تقديم استقالتهم كما يؤطر ذلك الفصل 47 من الدستور، ويعتبر من يرجحون هذا السيناريو أن إمكانية التعايش بين حلفاء التحالف وخاصة حزبي العدالة والتنمية وحزب الاستقلال أصبح في حكم المستحيل، وأنه بات من مقتضيات السياسة والأخلاق أن ينزل حزب الاستقلال قاربه من سفينة الحكومة، وأن يبحث عن مكان آخر للرسو.

السيناريو الثالث: يتضمن ثلاث خيارات: أولها أن يشرع رئيس الحكومة رفقة ما تبقى من أغلبيته بالبحث عن حليف أو حليفين وربما أكثر، وتشكيل أغلبية جديدة، وهو أمر مقدور عليه حسب العديد من التعبيرات، على الرغم من ما يوزع هنا وهناك من تصريحات، فعندما يأتي الأمر من الجهات العليا فلا يسع عددا من المكونات الحزبية سوى الامتثال، والخيار الثاني يتعلق بفرضية فشل محاولة تشكيل أغلبية جديدة، وفي هذه الحالة سنكون أمام حكومة أقلية، بما لهذا الخيار أيضا من تبعات، أما الخيار الثالث في السيناريو الثالث فيتعلق بوصول المشهد ككل إلى وضع الأزمة، والذهاب إلى انتخابات سابقة لأوانها، وبناء على ما تفرزه من خريطة انتخابية يتم تشكيل حكومة جديدة، لكنه الخيار الأصعب والأضعف في الوقت ذاته، إذ يرجح كثيرون عدم سماح رئيس الدولة ومختلف القوى الوطنية بالوصول إلى هذا الخيار، لما لذلك من انعكاسات على صورة البلد، وربما مستقبله القريب، وكذا لكون أكثر من جهة غير متحمسة لهذا التوجه، لتأكدها من استمرار ارتفاع أسهم حزب العدالة والتنمية في الصعود، وهو ما تؤكده الدراسات والاستطلاعات يوما عن يوم، فضلا عن الرسائل القوية التي حملتها الانتخابات الجزئية خلال السنتين الجارية والمنصرمة.

التحكيم الملكي، طرق الباب الخطأ

أستبعد جدا التحكيم الملكي، هذا ما قاله أستاذ العلوم السياسية محمد زين الدين في حديث ل “التجديد” وتابع شارحا بأن الفصل 42 من الدستور صريح، فهو يتكلم على أربع حالات للتحكيم الملكي، وهي حسن سير المؤسسات الدستورية، وصيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، واحترام التعهدات الدولية للمملكة. في ظل هذه الحالات الأربع لا مجال للحديث عن التحكيم الملكي ويبقى على الفرقاء السياسيين بأن يدبروا خلافاتهم فيما بينهم، لأنها خلافات حزبية وهو ما يجعل مطلب التحكيم الملكي مستبعدا في هذه النازلة.

ليس زين الدين وحده من يدفع بهذه الخلاصة، فإلى جانب الزاوية القانونية سبق لأكثر من محلل أن اعتبر أن إقحام المؤسسة الملكية في هذا الخلاف الحزبي يشكل حرجا لها، فيما آخرون قالوا منذ 12 ماي 2013 موعد إعلان قرار الانسحاب من الحكومة الموقوف التنفيذ وقبله إن خطوات شباط ابتزازية بالأساس وأن القرار مناورة ولا جدية له، وقد عبر حينها وفي أول رد رسمي لحزب العدالة والتنمية من خلال حكيم الحزب والنائب الأول لابن كيران عبد الله بها بأن الحزب لن يخضع للابتزاز من طرف أي كان. وبالمقابل قال بأن حزبه لا يمكن أن يرد عن الكلام مادام ليس هناك أي قرار نهائي مسؤول وقانوني، وعندما يحصل ذلك سيكون لكل حادث حديث.

اليوم وبعد أزيد من شهر من انتظار الاستقبال الملكي الذي يتحدث عنه شباط لوحده ولم يصدر إلى اليوم عن القصر الملكي ما يؤكد حادث الاتصال أو واقعة الاستقبال، تتأكد الكثير من التحليلات التي شككت في الاتصال من الأصل، كما سبق لبعض الجرائد أن كتبت أن الديوان الملكي أحال مذكرة شباط على رئيس الحكومة، وهو ما اعتبره العارفون بالإدارة خطوة تدخل في إطار عدم الاختصاص، بمعنى أن إحالة الرسالة على رئيس الحكومة توجه رسالة أخرى واضحة لكل ساعي بريد بأن الوجهة كانت خطأ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *