منتدى العمق

في نقد مفهوم الحركة الوطنية

ما يزال سؤال “الموضوعية” أحد أهم الإشكالات العريضة التي ستظل تلاحق الكتابة التاريخية المغربية وتحاصرها، بالنظر إلى غزارة الأحداث والوقائع التي أرخ لها مؤرخون كبار بترسانة مفاهيمية ثقيلة وحساسة، نعتقد أن بعضا منها – من الناحية الابستمولوجية على الأقل- لم يكن دقيقا بما فيه الكفاية ويحتاج توضيبا وتدقيقا.

ومفهوم “الحركة الوطنية” واحد من تلك المفاهيم، اخترته موضوعا لمقالتي قصد إثارة التفكير حوله من خلال الوقوف عند دلالات “الوطنية” وما تطرحه من إشكالات، على اعتبار أن “التفكير درجة عليا في سلم البناء العقلي المعرفي”،(1) وبواسطته يمكن أن نبلور فكرا جديدا حول مفهومنا المركزي: “الحركة الوطنية”. ولا ننكر أننا نروم أن نجعل من المفهوم نفسه، مدخلا لتنمية الوعي حول كون المادة التاريخية بطبيعتها- كما تقدمها المراجع التاريخية والكتب المدرسية- تقتضي إعادة إخضاعها – كلما سنحت الفرصة بذلك- للتشريح عبر السؤال الواعي المستفز المفعم بالحس النقدي قصد إرجاع التاريخ إلى مساراته الصحيحة.

لقد دأبت الكتابة التاريخية المغربية، على تقسيم كفاح المغرب ضد الحماية إلى مقاومة مسلحة وسياسية. هذا التقسيم- في نظرنا- منطقي ولا إشكال فيه، لأنه يستمد مشروعيته ومنطقيته من طبيعة الوسائل التي اعتمدت في كل مقاومة. ولا غرابة إذن أن يحظى بجاذبية تخصه بمنزلة في القلب وتكسبه استقرارا في العقل؛ فكلتا المقاومتين ما هما في الحقيقة، إلا لبنتان لصرح تاريخي واحد، هو”نضال المغرب من أجل الاستقلال”، وحتى إن اعتمدنا الزمن معيارا، فإن المقاومة السياسية السلمية امتداد للمسلحة، أو على الأقل تشكلت في رحمها بما أنها ظهرت في أواخرها، لكن عندما يدفع بمفهوم “الحركة الوطنية” إلى الواجهة، ليتم إفراد المقاومة السياسية به دون المسلحة، آنذاك نصادف إشكالا ابستمولوجيا يحدث رجة في العقل، وضيقا في الصدر، فنطرح أسئلة حول مدى علمية هذا الإفراد وموضوعيته:

أليس في ذلك تلميح إلى “لا وطنية” المقاومة المسلحة؟ وقبل ذلك، ماذا يقصد بالوطنية؟ وهل دلالتها مستقرة على حال ؟ ألا توجد مفاهيم كثيرة أكثر دقة للتمييز بين المقاومتين غير كلمة “الوطنية”؟ هذه الكلمة الحساسة التي لا يساوم فيها معظم المغاربة؟ ثم أي من المقاومتين في الحقيقية أولى بحمل شارة الوطنية؟ هل المقاومة المسلحة التي لم يسجل عليها التاريخ يوما أنها قبلت المساومة؟ أم المقاومة السياسية التي جنح بعض زعمائها في لحظة تاريخية إلى التعامل مع المستعمر تحت غطاء المطالبة بالإصلاحات؟ أليس في الأمر تحاملا على مرحلة المقاومة المسلحة خدمة لأجندات معينة ولإيديولوجيات محددة؟

تتماهى مفردة الوطنية مع معاني كثيرة “كحب الوطن، والشعور بارتباط باطني نحوه…كقطعة من الأرض يرتبط بها الفرد وتتعلق بها عواطفه وأحاسيسه” إنها تعني “الانتساب إلى الوطن والغيرة عليه ومحبته والإخلاص والتضحية من أجله”(2). وقد أشار البعض إلى أن الوطنية ” تطابق المجهود المبذول من طرف مجتمع ما، لامتلاك مصيره”(3). والوطني هو ذلك الشخص الذي يسعى “للحفاظ على حوزة الوطن ضد أي احتلال أو استغلال بالقوة أو بوسيلة تشبهها” (4). لا شك إذن أن الوطنية هي كل ما أشرنا إليه، وما دام الأمر كذلك، فأي من معانيها يصلح اعتماده لإسقاط صفة الوطنية على المقاومة المسلحة؟ ألم تكن كفاحا بطوليا في سهول الوطن وجباله، في صحرائه ومدنه وأريافه؟ ألم يكن من أولوياتها طرد المحتل وكبح طموحاته؟ ألم يعبر قادتها عن حب للوطن قل نظيره؟ ألم تكن وطنيتهم خالصة ومقاومتهم صادقة؟ أعتقد أن قادتها حاربوا بكل ما للوطنية من معنى، أما عن تحجج البعض بكونها منحصرة نسبيا في الأرياف مقارنة بالسياسية التي شقت طريقها إلى شريحة عريضة من المجتمع، لاسيما في الحواضر، ما جعل منها “وطنية” أي شاملة لكل ربوع الوطن، فإننا نعتقد أنه كلام – وإن كان صحيحا- إلا أن بعضه يضرب بعضا؛ فإسقاط الوطنية على المسلحة بمبرر انحصارها في الأرياف يجيز إسقاطها على السياسية بمبرر انحصارها في المدن. إن الحركة الوطنية تعني”مجموع ردود الفعل المنظمة لشعب أو لأمة من أجل الدفاع عن السيادة الوطنية”(5)، ولفظة “الحركة هنا إنما” ترادف لفظة “المقاومة”؛ المقاومة كيفما كان نوعها وانتشارها، وحمل المقاومة لشارة الوطنية مشروط بأن تكون موجهة للدفاع عن الوطن والذود عن مصالحه العليا، وإننا نعتقد أن المسلحة كانت كذلك شأنها شأن السياسية.

إن استعمال مفهوم “الحركة الوطنية” مكان المقاومة السياسية، إنما هو اصطلاح سياسي محض، ابتدعه زعماء الأحزاب السياسية، ووظفوه توظيفا إيديولوجيا – بعدما أفرغوه من محتواه التاريخي- ليزكوا به أنشطتهم التي قدموها في ما بعد برهانا على أحقيتهم تولي مراكز القرار. الواقع نفسه كرسه أبناؤهم من بعدهم، عندما قدموا لنا أنفسهم بصفتهم امتدادا لتلك الأحزاب، لتبقى لهم أحقية وراثة تلك المراكز بحجية المشروعية التاريخية. لذا لا ينبغي للمرء أن تصيبه الدهشة في كل مرة يكتشف فيها أن هذه الفئة تحاول عبر قنوات التعليم، والإعلام، والمسرح والسينما.. أن تسوق لذهنيتها؛ أقصد ذهنية النخبة، راسمة هالة كبرى، تجعل غالبية المجتمع سجينة في مركزها بينما ترفرف هي بأجنحتها في هالات علوية لا متناهية، كلما حاول أحد الاقتراب منها لمنافستها، ترسم لنفسها هالة جديدة تحافظ بها على نفس المسافة. مفهوم كهذا، ليس موضع إجماع وطني، وسيبقى من الناحية المعرفية العلمية محرفا لأن حمولته أثقل منه، وحتى من الناحية التاريخية، سيظل صرحا غير متين البنيان ما لم يطلق -وعلى الدوام- على المقاومتين معا، وما لم يتشبث بأساسه الصلب الذي هو المقاومة المسلحة، كما أنه من الناحية الأخلاقية فيه خذلان لشهداء سطروا بدمائهم ملاحم بطولية وباتوا شبه مقصيين بتقزيم أدوارهم وتركينهم على هامش الذاكرة والتاريخ. إن المقاومة المغربية ضد الحماية ينبغي أن تنعت كلها ب”الوطنية”، وهذا كلام نقوله بكامل وعينا دون مزايدات ودون أية خلفية إيديولوجية، وإلا فالمنطق يحتم علينا طرح السؤال التالي: أي من المقاومتين -في الحقيقية- أولى بحمل شارة الوطنية؟

عندما دخلت فرنسا واسبانيا إلى المغرب لاحتلاله، تصدت لهما المقاومة المسلحة بحس وطني. والتاريخ – باعتباره مستودعا للحقائق- شاهد على ذلك؛ لقد احتفظ لنا بمواقف بطولية قمة في التضحية وحب الوطن، ولم يسجل على أصحابها أنهم قبلوا يوما المساومة. أما المقاومة السياسية، فالتاريخ ذاته نقل لنا بأن بعض زعمائها- قبلوا في لحظة تاريخية التعامل مع المستعمر تحت غطاء المطالبة بالإصلاحات. وصراحة شتان بين هذا الموقف وذاك: أليست مطالبة المحتل بإدخال إضبارة من التعديلات في البلاد اعترافا ضمنيا به واستسلاما له؟ أليس في ذلك استرخاص لدماء شهداء المقاومة المسلحة؟ ثم، ماذا عن افتعال “تسمية” “الظهير البربري”؟

ألم يكن مفتعلها قاب قوسين أو أدنى من أن يحدث شرخا في اللحمة بين المغاربة – في لحظة حرجة استدعت تقويتها- أمام قوة استعمارية خارجية عينها على خيرات البلاد؟ فأي من المقاومتين إذن أولى بحمل شارة الوطنية؟

خلاصات:

– إن مفهوم الحركة الوطنية هيكل ومادة، المادة إنما هي المقاومة المسلحة والمقاومة السياسية بكل الأحداث التي شكلتهما، والهيكل إنما هو المفهوم، أي كلمة الحركة الوطنية التي وضعت كوعاء ليستوعب مادته، بحيث يكفي أن يذكر حتى نفهم انه يعني المقاومتين. لكن يبدو أن هذا الوعاء/المفهوم يلفظ جزءا من مادته ويرفض أن تكون منه فيلقي بها إلى الهامش. ليس لأنه أضيق من أن يستوعبها وإنما هو إقصاء مقصود يتم تبريره بمبررات واهية صدقناها بدون وعي.

– إن مفهوم الحركة الوطنية كما هو متضمن في جل الكتابات التي أرخت لفترة الحماية، وكما يروج له حاليا في الصحافة والإعلام والخطاب الرسمي والكتب المدرسية… مفهوم إيديولوجي يؤكد أن هناك من يشن حربا على الذاكرة. فهل من قراءة تاريخية جديدة لهذا المفهوم توضبه وتدققه وترجعه إلى سكته الصحيحة؟

– إن هذا المفهوم الذي اتخذناه عينا على مرحلة مهمة من ذاكرتنا المشتركة، إنما هو برهان على أن ما حدث في تلك المرحلة مازال يلقي بظلاله على الحاضر. والحاضر يضع نصب أعيننا جسامة المخاطر المحدقة باستقرار وأمن وطننا الحبيب(مشكل الصحراء، الإرهاب…). لذلك، ومن أجل المستقبل، نقول إن الدولة مطالبة بالمصالحة مع الذاكرة لتجد الدولة شعبها في فترة الأزمات.

(1) محمد الجيري، المدرسة والحاجة إلى مهارات التفكير، مقال نشر في صحيفة الأستاذ بتاريخ 24/05/2014).
(2) معجم المعاني الجامع.
(3) كولفراني محمد، الوطنية المغربية وإشكالية الاستمرارية التاريخية…
(4) عبد الغني اليعقوبي، الحركة الوطنية المغربية من الإصلاحات إلى المسلسل الديمقراطي، الحوار المتمدن،21/08/ 2004)
(5) سعيد الوجاني، مغالطة التاريخ(الحركة الوطنية)، الحوار المتمدن، مواضيع واتجاهات سياسية).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *