وجهة نظر

الجماعات الترابية وفيروس “كورونا” المستجد .. سؤال التدبير الحر

لا زالت الطبيعة تمارس دور روائز الكشف متحدية الانسان في كل مرة، فما يكاد يتعافى من أزمة تمتحن محدوديته أمامها -أي الطبيعة- حتى تباغثه أخرى تكشف عيوبه وتسائل قدراته أكثر. ولعل أزمة فيروس “كورونا” المستجد “كوفيد 19” آخر ما توقعه عدو المجتمع الدولي، فكان التحدي قويا أعجز أعتى الاقتصادات، وأحنى رؤوس أقوى المجتمعات.

ليكون الارتباك السمة الغالبة في تعاطي كل دولة على حدة مع تداعيات هذا السم، الذي لفظته حنجرة الصين لتلتقطه أنفاس المعمور مختنقة حد الموت. فانهمكت كل دولة تحصي موتاها، وتصارع أمواج المنية المحدقة من كل جانب، لكن إذا كان احتضار الأفراد يرعب، فإن عجز الأنظمة على مواجهة هذه الجائحة يميت.

فجأة أعادت الأنظمة إنتاج ذواتها فعادت “الدولة المتدخلة” إلى البزوغ، ومعها الأولويات الاجتماعية و”الدولة الإجتماعية” تواري خلفها المسلمات الاقتصادية الليبرالية، التي تقول بمحدودية تدخل الدولة. وفجأة كذلك عاد لنا جون ماينارد كينز وكتابه “النظرية العامة في الشغل والفائدة والنقود” ليسرد علينا أبجديات نظريته في إعادة البناء على أنقاض الأزمات.

والمغرب شأنه شأن دول العالم، إنزوى إلى مواجهة الجائحة مع تسجيل بعض نقط الضوء مقارنة مع معظمها. فوسمت الاستباقية وسرعة التدخل الفعل العمومي في المغرب لمواجهة فتك هذا العدو اللامرئي. فعادت بذلك الدولة بقوة إلى الواجهة، وأمسكت بزمام الأمور، كما تستوجبه هكذا أزمات. استطاع المغرب بفضل توجيهات المؤسسة الملكية ودورها المجمع أن يخلق الدفعة القوية اللازمة لتفادي السقوط، موحدة بذلك جميع الأطياف حول غاية واحدة، وهي حماية المواطن المغربي، والحفاظ على حياته، بغض النظر على الكلفة الاقتصادية والتداعيات المرتبطة بها.

لكن، وبما أن كل أزمة تفرز قيادات، فمن الطبيعي أن تسقط أخرى، وبديهي أن تعري واقعا بالأمس احترف التجميل باعتماد المساحيق. فما موقع المغرب إذا من هذه المسلمات؟!!. نود هنا أن نسائل لامركزيتنا المؤسس لها دستوريا، والمعتمدة على جهوية متقدمة (الفصل الأول من دستور المملكة المغربية لسنة 2011)، تتمتع معها الجماعات الترابية من جهات وعمالات وأقاليم وجماعات من وضع شريك ذي وزن في تدبير الشأن العام. وعطفا على الدستور المغربي لسنة 2011، الذي تسامى بمجموعة من المبادئ الديمقراطية المؤطرة، الخاصة بطريقة تفعيل هذه الشراكة، من قبيل مبدأ التدبير الحر (الفصل 136)، ومبدأ التفريع (الفصل 140)، وكذا الحكامة الجيدة (الباب 12)، وعطفا كذلك على القوانين التنظيمية لسنة 2015 الخاصة بالجماعات الترابية، يمكن القول أن الأدوار، التي أنيطت بها هذه الوحدات الترابية لم ترق إلى مستوى التطلعات، خاصة وأن مواجهة الأزمة الخاصة بـ “كوفيد 19″، وحالة الطوارئ الصحية، التي أعلن عنها (مرسوم بمثابة قانون رقم 2-20-292)، من أجل مكافحة هذه الجائحة، أفرزت نمطا تدبيريا عموديا، تمظهر من خلاله استئثار وزارات معينة بجل القرارات الخاصة بتدبير ومكافحة الجائحة، وعلى رأسها وزارة الداخلية، ووزارة الصحة، ثم الوزارة المكلفة بقطاع المالية.

هذا النمط جعل من الجماعات الترابية تابعا، وهو كذلك في واقع الحال لوزارة الداخلية، التي أحاطت بكل مداخل القرار الترابي، سواء تعلق الأمر بالتدبير الميزانياتي الوسيلاتي (تعديل في مسطرة اتخاذ القرارات الخاصة بفتح وبرمجة، وكذا تحويل الاعتمادات كمثال)، أو الاجرائي السياسي (تعليق دورات المجالس، امكانية اللجوء لمسطرة الصفقات التفاوضية…)، ثم كذلك العملياتي (محدودية تفعيل الشرطة الادارية، إلغاء مرحلي للتوظيف، تقليص النفقات…).

ونود هنا أن نتقاسم مع القارئ الكريم أحد الأسئلة، التي تبحث السبب وراء استناد المشرع في صياغة القانون 2-20-292، المتعلق بإعلان حالة الطوارئ الصحية على الفصلين 21 و 24 من دستور المملكة (الفصل 21 يتطرق الى الحق في الحفاظ على السلامة الجسدية)، ولماذا لم يتم الاحتكام الى الفصل 20 (الذي يضمن الحق في الحياة)، علما أن “كوفيد 19” عدو مميت؟. نسأل أيضا، لماذا تتكلف السلطة بتوزيع إعانات من تمويل الجماعات الترابية؟ لماذا تم إقحام الولاة والعمال في مسطرة الإلتزام بالنفقات؟. ثم ماذا لو أن أزمة “كوفيد 19″ زارتنا غير مرغوب فيها أواخر السنة المالية، بعدما تكون الدولة والجماعات الترابية قد استنفذت ميزانياتها، ثم لم يعد هناك مجال للمطالبة بتقليص النفقات؟. ماذا لو كان النموذج التنموي الجديد قيد التنفيذ، وكانت الأبناك شرعت في توزيع القروض لفائدة شباب تصطدم مشاريعهم مباشرة بالتداعيات الإقتصادية لهذه، فتشل حركة المقرض والمقترض وصاحب الضمانة؟.

من خلال كل ما سلف، نتساءل حيال الدور الحقيقي، الذي لعبته الجماعات الترابية، أو بالأحرى أريد لها أن تلعبه خارج دوار التعقيم والإعانات المقدمة للمعوزين، وإيواء المواطنين في وضعية صعبة، ثم تبعات القرارات، التي يتخذها وموقف المراقبة البعدية منها. نتساءل كذلك عن ما مدى ملاءمة القرارات والتدابير المتخذة للقواعد القانونية المؤطرة، هل يمكن تعديل قانون تنظيمي بقانون من درجة أدنى (مسطرة تعديل الميزانية التي جاءت بها دورية لوزير الداخلية)؟!! الجواب بالنفي طبعا في الحالات العادية، لكن حالة الطوارئ المؤطرة بنظرية” ظروف الاستثناء” أفرزت غير ذلك.

نتساءل كذلك على هامش الفعل والمناورة، الذي تضطلع به الجماعات الترابية في تدبير هذه الجائحة، ونتساءل كذلك عن مصير النسيج الاجتماعي المحلي وعلاقته بالنخب السياسية في زمن مابعد “كورونا”. كيف سوف يمكننا التعامل مع بعض الذين استفادوا من إعانات نقدية مدة أربعة أشهر، وربما ألفوها وأعوزهم لها الفقر؟ أسئلة حارقة تنتظر ردودا لا نخالها ترضي التلهف والتعطش للفعل الترابي ببلادنا. هل يمكن في ظل تبعية جماعاتنا الترابية المالية للدولة والتقهقر الحالي لمواردها الذاتية على علتها أن تقوم بدور محوري في إعادة الإقلاع الاقتصادي للمجال، الذي منوط بها تدبيره؟!! الإجابات يمكن توقعها، بيد أن النتائج صعب إلى حد كبير تكهنها.

يمكن القول بأن “كوفيد 19” مارس رقابة من نوع خاص على الجماعات الترابية ببلادنا، ومن خلالها على المدبر الترابي، ثم إنه أعاد ملف التدبير الحر إلى طاولة الحوار بين اللاتركيز واللامركزية داخل قاعة جلسات التنظيم الترابي ببلادنا. فلنرى ماذا تكون الخلاصات والعبر بعد الجائحة، والشيء الوحيد الأكيد هو أن لها ما بعدها.

* باحث في السياسات العمومية والمالية المحلية بجامعة القاضي عياض بمراكش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *