مجتمع

أجيال إعلامية: الجديدي.. خاطب المغاربة بالإسبانية لـ39 عاما وعاصر 9 وزراء للإعلام

تقف وراء وسائل الإعلام بمختلف أشكالها، طاقات بشرية هائلة تسهر على إدارتها وتشغيلها والقيام بكل المهام الإعلامية، بهدف إيصال رسالتهم النبيلة في تبيلغ المعلومة للمجتمع عبر وظائف الإخبار والتثقيف والترفيه، وهو ما يُسهِم في تشكيل البناء الإدراكي والمعرفي للأفراد والمجتمعات.

فالإذاعة المغربية التي تعود سنة انطلاقتها إلى 1928، والتلفزة المغربية التي شرعت في بث برامجها سنة 1962، وعلى مدار تاريخهما، مرت أجيال وأجيال من الإعلاميين أثرت وتأثرت بهذا لكيان الذي ترك بصماته عليهم وعلى ذاكرتهم، وكلما احتاجوا لغفوة منه رجعوا بذاكرتهم للخلف ينهلون منها أجمل الحكايات.

وتبرز في هذا الإطار، أطقم البرامج والنشرات الإخبارية من مخططي البرامج ومذيعين ومحررين ومنشطين وفنيي الربورتاج والتوضيب وتقنيي التصوير والصوت وعمال الصيانة ومسوقو الإعلانات التجارية الذين يقومون بتنظيم الأعمال التجارية، إلى جانب مسؤولي العلاقات العامة والأعمال الإدارية المرتبطة بإنتاج البرامج والسهر على إعداد النشرات الإخبارية من اجتماعات التحرير إلى بثها عبر الأثير.

فطيلة أشهر فصل الصيف، تسترجع معكم جريدة “العمق” من خلال مؤرخ الأجيال الإعلامية محمد الغيذاني، ذكريات رواد وأعلام بصموا تاريخ الإعلام السمعي البصري المغربي عبر مسارهم المهني والعلمي وظروف اشتغالهم وما قدموه من أعمال إبداعية ميزت مسار الإعلام الوطني، وذلك عبر حلقات يومية.

الحلقة الـ32 : سعيد الجديدي 

سعيد الجديدي أحد أبرز الوجوه الإعلامية في المغرب. عرفه المشاهدون وجها مركزيا في النشرات الإخبارية باللغة الإسبانية في التلفزة المغربية طيلة عقود. بدأ مشواره الإعلامي أواخر الستينيات وبداية السبعينيات كان مراسلا من الرباط لجريدتين إسبانيتين هما «إنفورماسيونيس» (أخبار) و«بويبلو» (الشعب)، وكانتا من أحسن الجرائد الإسبانية وقتها، ولكنه لم يمكث طويلا في ذلك العمل، لأنه التقى بالأستاذ محمد شقور، الذي كان رئيس القسم الإسباني بالإذاعة المغربية، فاقترح عليه برنامجا نسائيا بالإذاعة اسمه «أصداء نسائية»، وكان برنامجا أسبوعيا، وبعد ذلك اقترح عليه أن ينضم إلى الفريق الصحافي، ومنذ ذلك التاريخ لم يغادر التلفزة إلا بعد أن قضى فيها 39 سنة من العمل.

يقول الجديدي عن الفترة التي قضاها في الاذاعة والتلفزة: “اشتغلت مع حوالي تسعة وزراء للإعلام، بمن فيهم إدريس البصري الذي جمع بين الإعلام والداخلية، وتقريبا 11 مديرا للإذاعة والتلفزة، طيلة 39 سنة.

وعن الفترة التي قضاها الجديدي وتقييمه للأداء الاعلامي للاذاعة والتلفزة يقول “يمكنني القول إجمالا، إن هناك خطأ يرتكبه المغاربة عندما يتحدثون عن هيمنة وزارة الداخلية على الإعلام العمومي، وهو في نظري، خطأ كبير لأنه لا يذهب إلى عمق المشكلة، لقد سمحت لي تجربتي الطويلة بأن ألاحظ أنه ليس هناك أدنى فرق بين هيمنة وزارة الداخلية أو وزارة الخارجية أو رجال المطافئ، لأنه لا شيء تغير في الإعلام العمومي، وهكذا فإني أرى أن الإعلام العمومي في المغرب، لم يتحرك بالفعل إلا مع مدير الإذاعة والتلفزة الفرنسي «باكار»، فهذا الأخير نجح في تحريك واقع الإعلام العمومي، وذلك اعتبارا لعاملين موضوعيين: أولهما توفره على شيك موقع على بياض من الناحية المالية لإنجاح مشروعه في تطوير الإعلام العمومي، وثانيهما توفره على شيك موقع على بياض تقريبا، من ناحية الحرية الإعلامية التي كان مسموحا بها، حيث إن باكار كان قد أُعطيَ الضوء الأخضر لكي يقوم بكل ما يراه مناسبا لتطوير حالة الإعلام العمومي من طرف أعلى سلطة في البلاد. فأهم تغيير أحدثه باكار هو أنه قلص من المدة التي تستغرقها الأنشطة الملكية في التلفزيون والإذاعة والتي كانت تتجاوز في السابق الساعة، حسب طبيعة الأنشطة الملكية، حيث حصرها في 15 دقيقة فقط بشكل مركز وبطريقة ذكية، في النشرة الرئيسية. المسألة الثانية أنه جاء بالتكوين المستمر في الإذاعة والتلفزيون، لتطوير كفاءات العاملين. والثالثة أنه جلب كفاءات من خارج الإذاعة والتلفزيون وضخ دماء جديدة فيهما، وباكار هو صاحب شعار «التلفزة تتحرك» في بداية الثمانينيات الذي لقي ترحيبا كبيرا”.

وأضاف: “لكن هذا المشروع لم يدم طويلا وسرعان ما توقف مباشرة بعد رحيل باكار ومجيء وزارة الداخلية التي سيطرت على الإعلام العمومي، حيث حصلت الطامة الكبرى، لأن الداخلية والإعلام لا يلتقيان. واستمرت هذه المرحلة طويلا بكل نواقصها وسلبياتها. ولكن بعد انتهاء زمن سيطرة الداخلية على الإعلام، عبر الجميع عن فرحته ببداية مرحلة جديدة طابعها الانفتاح والحرية. وبعد مرور عشر سنوات على انتهاء عهد هذه السيطرة، أي ما بعد الداخلية، ما زالت الأمور على حالها، وهو ما يجعلني أقول إن سيطرة الداخلية أو غيرها على الإعلام شيء واحد، ذلك أن الإعلام في المغرب كان دائما تابعا للرجل القوي في الدولة، سواء مع أوفقير أو الدليمي أو البصري، ولكن -كما يقال- يجب أن نعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر، فوزارة الداخلية عندما جاءت إلى الإعلام وجدت أمامها تجربة غنية جدا خلفها باكار وراءه، فكان من الصعب عليها أن تقفز عليها أو على الأقل، أن تعطي منتوجا أقل بكثير منها. صحيح أنه كان هناك تراجع، لكنه لم يكن ملحوظا قياسا إلى المرحلة السابقة، غير أن ما يحصل اليوم في الإعلام العمومي يجب أن نعترف بأنه أكثر رداءة من مرحلة هيمنة الداخلية”.

ومن المهام التي يحتفظ الجديدي بذكريات ويفتخر بها الفترة التي قضاها بطرفاية حيث كان مديرا على إذاعة طرفاية قبيل المسيرة الخضراء في بداية السبعينيات، ويقول الجديدي عن هذه الفترة :

“أظن أن إذاعة طرفاية تحتاج إلى مجلدات، وأعتقد أنها تعرضت لظلم كبير من قبل المسؤولين المغاربة، لأنها تشكل جزءا من تاريخ المغرب. إذاعة طرفاية كانت تسمى إذاعة التحرير والوحدة، وقد أنشئت عام 1974 قبل المسيرة الخضراء. أتذكر أنه ذات يوم، هاتفني محمد بن ددوش، مدير الإذاعة وقتها، ومحمد خالص، المدير العام للإذاعة والتلفزة، وقالا لي إن السلطات العليا في البلاد تريدك أن تكون في طرفاية وفعلا، سافرت بشكل مستعجل إلى أكادير مرفوقا بالكولونيل الحايك، بطل معركة «الزلاقة» في الصحراء. وعندما وصلنا إلى أكادير، كان في انتظارنا الجنرال الدليمي الذي استقبلني وقال لي: نحن نعول على تعاليقك، وأعطاني عددا من مجلة «جون أفريك» وطلب مني إبداء ملاحظاتي على العدد، فرأيت على الغلاف صورة للمغرب، وقلت له تلك الملاحظة، لكنه رد علي: لا. وفجأة وبينما كان منشغلا انحنى علي الكولونيل الحايك ونبهني إلى تاريخ العدد، فلاحظت أن المجلة تحمل تاريخا لاحقا، أي أنه وصل إلى المغرب قبل طباعته، إذ كان المغرب قد دفع ثمن ملف خاص تعده المجلة عن الصحراء وتم إرسال العدد الذي سيصدر فيه الملف قبل أيام من صدوره. فقلت تلك الملاحظة للدليمي، ثم كلف الكولونيل الشعرة بإيصالي إلى طانطان عبر طائرة عسكرية. وعندما وصلت إلى طرفاية، كانت هناك ظروف العيش صعبة جدا. وقد تم تكليفي بافتتاح البث بالإسبانية، الأمر الذي فاجأ كثيرا الإسبان والصحراويين الذين لم يتعودوا سماع بث بالإسبانية في إذاعة بالمغرب، وراجت إشاعات حولي، حيث قيل إنني من السكان الأصليين الذين هربوا من إسبانيا والتحقوا بالصحراء، بسبب طريقتي في نطق اللغة الإسبانية. وكان دورنا في الإذاعة هو تعريف الصحراويين بتاريخ المغرب الحقيقي من 1912 إلى تلك الفترة، أي 1974، إذ لم يكن الصحراويون يعرفون شيئا عن واقع المغرب، ووجدنا هناك أن صحراويين ممثلون في الكورثيس الإسباني، مثلهم مثل الإسبان.

وفي تلك الفترة، لم تكن الطريق بين طانطان وطرفاية موجودة، فكان لا بد أن تسير برفقة دليل من الذين يعرفون جيدا الطرق داخل الصحراء. وكان في طرفاية آنذاك أفراد التجريدة الثالثة من الجيش المغربي الذين عادوا وقتها من سوريا بعد حرب رمضان. كانت مهمتنا من أصعب المهام في تلك الإذاعة، لأنه لم تكن لدينا لا قصاصات أخبار ولا صحف ولا أي شيء، كان هناك المذياع فقط، حيث نستمع إلى إذاعة الرباط ونكتب دون العودة إلى شيء. وهنا، أشير إلى أن تجربتي في الإذاعة الإسبانية أفادتني كثيرا، وأقول هنا إن الصحافيين الذين عملوا في تلك الإذاعة كانوا مجاهدين حقا، وأكثر من 70 في المائة منهم ماتوا، ومن بين الأحياء الذين بقوا مصطفى العلوي، وكان هناك التازي ومحمد جاد وبنعيسى الفاسي رحمهم الله، وآخرون، وكان الأمر صعبا بالنسبة إلي لأنني كنت مضطرا إلى البقاء على اعتبار أني كنت الوحيد في القسم الإسباني، بينما كان الصحافيون في القسم العربي يتناوبون على العمل، وما إن دخلت الرباط مريضا ومتعبا حتى وجدت أن الاستعدادات لتنظيم المسيرة الخضراء قد بدأت، فكان علي أن أشتغل دون أن أرتاح.

وللتاريخ فإن فكرة إنشاء هذه الاذاعة، تفتقت من ذهن الملك الراحل الحسن الثاني، الذي أعطى أمره لمحمد بنهيمة، الذي كان وزيرا للإعلام في ذلك الوقت، من أجل تنفيذها. فقد أراد الحسن الثاني أن تكون هناك إذاعة في طرفاية لكي نخبر الإخوة الصحرويين بما كان يحصل في المغرب، لأنه قبل إذاعة طرفاية لم يكن الصحراويون يعرفون أي شيء عن المغرب، إلا عبر إذاعة طنجة التي كانت تبث في الفترات الليلية فقط، فلما أنشأنا إذاعة طرفاية كانت بثلاث لغات، العربية والإسبانية والحسانية، كانت الإذاعة الوحيدة التي تواجه إذاعة العيون التابعة للبوليساريو، والتي كان بها قسم باللهجة الحسانية موجه إلى الصحراويين، في إطار الدعاية ضد المغرب، ولكننا رغم الإمكانات القليلة التي كانت متوفرة لنا استطعنا تجنيد حوالي مليونين من المغاربة في المسيرة الخضراء.انتهت مهمتها بهذه الاذاعة بانتهاء المسيرة الخضراء، فقد كان دورها هو التحضير لتلك المسيرة ومواكبتها، ولما عدنا إلى العيون اشتغلنا بالاذاعة الموجودة بها.

وعن التكريمات التي حظي بها سعيد الجديدي يقول ” أنه كانت هناك عدة التفاتات على غرار ما حصل، مثلا، في مراكش أو تطوان أو الرباط، وفي مراكش لن أنسى أبدا ما قام به بعض الأصدقاء الذين أسسوا جمعية أطلقوا عليها «جمعية أصدقاء سعيد الجديدي»؛ ثم إن التكريم غير مهم بالنسبة إلي، لأنني لم أتقاعد عن الكتابة، فما إن تقاعدت من الإذاعة والتلفزيون حتى اتصلت بي جهات عدة من إسبانيا وخارجها للعمل معها، وأنا أعمل مستشارا وكاتبا مع عدد من وسائل الإعلام في إسبانيا والمكسيك والبيرو مثلا، ولدي التزامات عدة مع عدد من مراكز الدراسات في إسبانيا وفي أمريكا اللاتينية.

وخلف الوجه الإعلامي لسعيد الجديدي، يخفي سعيد وجها آخر هو وجه المثقف والروائي. عن هذا الجانب يقول سعيد الجديدي عن ميولاته لتقديم النشرات الإخبارية الإسبانية بالتلفزة المغربية ” في الحقيقة، بدأت هذه الميول عندما كان مراسلا ليومية «إيل باييس» الإسبانية في منطقة المغرب العربي، فقد كان هناك صحافي إسباني اسمه خافيير فالنثويلا الذي ألف كتابا عن حزب الله، وكان معه، فأعجب بطريقة كتابته، وعندما أصبح مراسلا للجريدة الإسبانية وجد أن قدرته التعبيرية أصبحت أكبر، فراودته فكرة تأليف كتاب، خصوصا وأنه لا يعتمد في الكتابة سوى على الذاكرة، بالعودة إلى سنوات الطفولة والشباب في مدينة تطوان، حيث لا يختلق شخصيات جديدة من الذاكرة، بل فقط يضفي من الخيال على الشخصيات الواقعية التي تعرف عليها في تطوان. ومن هنا، يمكن القول إن جميع رواياته تدخل ضمن الكتابة الأوتوبيوغرافية، أو السيرة الذاتية، من زاوية أخرى.

* المصدر: كتاب “للإذاعة المغربية.. أعلام” وكتاب “للتلفزة المغربية.. أعلام” – محمد الغيذاني 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *