منتدى العمق

الكنيسة والعلم .. صراع العقل الديني والعقل العلمي في أوروبا العصر الحديث

لم تكد الكنيسة تنتهي من صراعها المرير والطويل الذي خاضته ضد ملوك وأباطرة أوروبا على مدى العصور الوسطى حتى وجدت نفسها أمام صراع آخر، لكن هذه المرة لم يكن سياسيا ولا عسكريا، بل صراع مع العلم و مع العقل الأوروبي المتحرر من قيود الكنيسة و الرافض لكل الخرافات و الأساطير التي كانت تتبناها وتدافع عنها منذ أن استتب لها الأمر و أضحت القوة الدينية والسياسية الأولى في أوروبا. وبالرغم من الصراع كان متجدرا في التاريخ الأوروبي ولم يكن وليد العصر الحديث كما يعتقد البعض إلا أن ذروته كانت مع عصر النهضة الأوروبية .

شكل مجال العلم والمعرفة واحدا من المجالات الكثيرة التي بسطت الكنيسة سؤددها عليه وحاولت جاهدتا أن تبعد أعين وأيادي الناس عنه ،ولم تكن تتوانى في الضرب بيد من حديد على كل من سولت له نفسه وحاول أن يفكر خارج الكتاب المقدس، أو ينتقد ما تدعو إليه الكنيسة ورجالاتها، فالكنيسة أقامها “ابن الله” وهو واضع عقائدها الأساسية، ومن ثمة فإن أي حركة تقوم للقضاء عليها إنما هو خروج على السلطة القدسية وخيانة للدولة الزمنية التي كانت الكنيسة درعها الأخلاقي والواقي .

واستطاعت بذلك الكنيسة ولأزيد من ثلاثة قرون أن توقف النمو الثقافي الذي كانت بعض أمصار أوروبا قد بدأت تشهده، وقيدت عقول الأوروبيين ،و احتكرت العلم وهيمنت على شؤونه، فأضحت الجامعات والمدارس تقبع تحت سلطتها وأخذت تتلقى الأوامر والتعليمات من رجالاتها وتلقن طلابها ما تبيح الكنيسة وتمنع عنهم ما تحرمه، ومنعت البحوث التي لا تجعل الكتاب المقدس مصدرها، وكذا قراءة الكتب وتفسيرها إلا على رجال الدين، و حرمت علم الكيمياء ووصفته بأنه من العلوم الشيطانية، كما حرمت الطب لأنه من “حق الرب” وحده، ومن كان يجرؤ على ممارسته كان موضع احتقار الكنيسة، وهذا أحد الأساقفة ويدعى جريجور فون تور ينتقد عمل الأطباء قائلا ” ماذا يستطيع الأطباء أن يفعلوا بآلاتهم ؟ إن مهمتهم تزيد الآلام ولا تخففها، فهم يفتحون العين ويجرحونها ويقطعون فيها بآلاتهم المدببة، وأنهم بذلك يقربون آلام الموت من المرضى من دون أن يساعدوهم …لكن إلهنا لديه آلة من الصلب واحدة وهي إرادته ولديه مرهم واحد وهو قوته على الشفاء ” . كما كانت ترى في استخدام الأدوية غير تلك التي تصفها هي عمل مشين، فالاعتماد على الأدوية التي يصنعها الإنسان من شأنه أن يضعف الاعتماد على الله وقوته لكونها حسب زعمها نشأت من وسائل الشعوذة والضلال وأنها من صنع الوثنية .

لكن هذه الأغلال ستبدأ بالانكسار مع بزوغ شمس العصر الحديث، وقد لعبت الحضارة الإسلامية دورا كبيرا في إخراج أوروبا من ظلمات الكنيسة وتحرير العقل الأوروبي من أساطيرها، وتعددت المسالك التي سلكتها في طريقها إلى الغرب، واعتبرت الأندلس أشهرها، إذ شكلت جامعاتها ومدارسها ومكتباتها مقصد الأوروبيين ليتثقفوا على أيدي علمائها ولينهلوا من فكر ابن سيناء وابن رشد و ابن البيطار وغيرهم من علماء الحضارة الإسلامية في الأندلس ، وفي هذا الصدد تقول المستشرقة الألمانية وصاحبة الكتاب الذائع الصيت “شمس العرب تسطع على الغرب” زيغريد هونكه Sigrid Hunke ” لم تكن جبال البرانس لتمنع تلك الصلات ، ومن هنا وجدت الحضارة الإسلامية الأندلسية طريقها إلى الغرب ” . أما المسلك الأخر فقد تمثل في الحروب الصليبية التي شنها الغرب على المشرق الإسلامي، والتي قال عنها المستشرق الفرنسي غوستاف لوبنGustave le Bon في كتابه حضارة العرب ” إنها لم تكن سوى نزاع عظيم بين أقوام من الهمج وحضارة تعد من أرقى الحضارات التي عرفها التاريخ ” . ودامت أزيد من قرنين من الزمن و أتاحت للغرب التعرف على الشرق المتحضر وأخذ عنه صناعة الورق واستخدام البوصلة والإسطرلاب وغيرها من العلوم .

و بذلك عرفت أوروبا الطريق إلى النهضة، فاستيقظ العقل الأوروبي من سباته ونفض عنه غبار الجهل والتخلف وخط طريقا يعبر عن نفسه ويكافح فيه من أجل تغيير الواقع الذي كان سائدا بفعل الكنيسة وأفكارها الضلالية، فطفق عالم العلوم ينزلق خفية خارج التحكم الكنسي، وأعلنت الكنيسة حالة الطوارئ وشكلت جهاز محكمة التفتيش من أجل محاربة ” الزندقة و الهرطقة ” معلنة بداية لصراع سيطول بين العقل الديني (الكنيسة) والعقل العلمي (العلماء) في أوروبا العصر الحديث .

اعتبرت نظرية عالم الفلك والطبيب والفيلسوف البولاندي نيكولاس كوبرنيكوسNicolaus Copernicus (1473-1543) القائلة بدوران الأرض والكواكب حول الشمس بمثابة القشة التي قصمت ظهر الكنيسة، فلا أحد من رجالها كان يتوقع أن ينحو الراهب الصادق كوبرنيكوس منحى “الزنادقة” ويتجرأ على نقد النظرية البطيلمية التي تبنتها الكنيسة ودافعت عنها لقرون والقائلة بمركزية الأرض، فكان بذلك جديرا بأن يقع في قبضة محكمة التفتيش، لكن المنية أدركته بعد أن خرج كتابه ” حركات الأجرام السماوية ” إلى الوجود، غير أن الكنيسة كانت له بالمرصاد وحرمت تداوله وقالت أن ما فيه هو وساوس شيطانية مغايرة لروح الإنجيل، فظنت بذلك أنها قد قطعت دابر “الزنادقة” وأفكارهم “الشيطانية”، لكن ظهور رجل آخر متشبع بأفكار كوبرنيكوس و يدعى جيوردانو برونو Giordano Bruno (1548-1600) قد قض مضجعها بعد أن حاول إحياء نظرية كوبرنيكوس، وحتى أنه ذهب أكبر من ذلك وقال أن هناك أشكالا من الحياة خارج الكرة الأرضية، فألقت محكمة التفتيش القبض عليه وزجت به في غياهب السجن لمدة ست سنوات، فلما أصر على رأيه أحرقته سنة 1600 وجعلته عبرة للآخرين .

وبعد إعدام برونو بسنوات قليلة كان عالم إيطالي آخر ويدعى غاليليو غاليلي Galileo Galilei (1564-1642) قد توصل إلى صنع جهاز التلسكوب مؤيدا ما نادى به أسلافه، فرأت الكنيسة في ذلك مبررا للقبض عليه ومحاكمته لكنه أعلن توبته قائلا ” أنا غاليليو وقد بلغت السبعين من عمري سجين راكع أمام فخامتك، – يعني البابا – والكتاب المقدس أمامي ألمسه بيدي، أرفض وألعن وأحتقر القول الالحادي الخاطئ بدوران الأرض “.

تلك كانت هي الخطوط العامة لصراع طويل و طاحن بين الكنيسة والعلم على مدى العصر الحديث، وانتهى بانتصار العلم على الكنيسة، وتحرر العقل الأوروبي من أفكار ونظريات طالما اعتبرها من المقدسات، فنفر من الدين و اعتبره ” أفيون الشعوب ” .

المراجع المعتمدة

– ديورانت ويل ، قصة الحضارة ، الجزء الرابع ، ترجمة محمد بدران .
– مينوا جورج ،الكنيسة والعلم تاريخ الصراع بين العقل الديني والعقل العلمي ،ترجمة موريس جلال .
– هونكه زيغريد ، شمس العرب تسطع على الغرب ، نقله عن الألمانية فاروق بيضون و كمال دسوقي .
– لوبون غوستاف ، حضارة العرب ، ترجمة عادل زعيتر .
– الطويل توفيق ، قصة النزاع بين الدين والفلسفة .
– الحوالي سفر ، العلمانية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *