وجهة نظر

لماذا ينتحر المغاربة.. محاولة فهم

منذ مدة ليست بالقصيرة عاد شبح الانتحار إلى واجهة الأحداث الوطنية اليومية، لكن تناول الظاهرة يطغى عليه التداول السطحي المرتبط بالواقعة والأرقام المتصلة بها، بينما يغيب أو يُغيّب الفهم العلمي الكاشف للمتغيرات المتحكمة فيها.

في السوسيولوجيا الدوركايمية نعثر على تفسيرات لظاهرة الانتحار، حيث تتناسب الظاهرة مع متغيرات اجتماعية ونفسية وثقافية.. لكن السيرورة الزمنية والمكانية ( المغرب مثلا) مهمة في تفسير الانتحار خارج القوالب التي تستند إلى التحليل السوسيولوجي الغربي، وبالتالي فإن فهم الأسباب يجب أن ينطلق من فهم وتحليل وتفكيك البنية الحاضنة لمختلف السياقات المنتجة ل” ثقافة الموت”، حيث النتيجة لا تعدو كونها رد فعل عكسي لواقع يمكن وصفه بالمعطوب والمعاق.

أرقام مخيفة تنقلها وسائل الإعلام، وخريطة تمدد شبح الانتحار تثير الكثير من علامات الاستفهام، إن على مستوى صمت الجهات الرسمية، أو على مستوى خلخلة مستوى تدخل الفاعل الثقافي والأكاديمي، بالنظر إلى كون ظاهرة الانتحار – في مستواها الراهني – انفلتت من فرضية الصُدفة، وارتبطت بعوامل تنتجها وتضمن لها التمدد والانتشار.

هكذا يمكن القول بأن الأجوبة المفسرة لإشكالية الانتحار لا ترتبط بسياق واحد، وإنما ترتبط بعوامل كثيرة منها الاجتماعية والنفسية.. لكن الشرط الاقتصادي يبقى شرطا فاعلا في تفسير الظاهرة، لأنه شرط مؤثر حتى في الشرطين السابقين، بل ويؤثر حتى في الشرط الروحي الذي تستكين له الذات في لحظة ” تٓلٓف”.

التفسير السطحي لظاهرة الانتحار يُحمِّل المسؤولية للفاعل، لأنه يركز على الفعل – غالبا – من زاوية دينية، وهذا التحليل يجد تفسيره في كون قتل الروح جريمة لا تغتفر، وأن من ألقى بنفسه من أعلى سطح عمارة، أو شنق نفسه بواسطة حبل.. ضعيف الإيمان وفارغ روحيا؛ من الممكن الانطلاق من هذا الفهم، لكنه أبدا لن يكون محيطا بالمعنى والمبنى الحقيقي لفهم ظاهرة الانتحار، على اعتبار أن من يقرر وضع حد لحياته، بمختلف الطرق والوسائل.. يكون قد جرّب مختلف سُبل المقاومة، بل تحدى الانهزام في مرات كثيرة، مما يعني أن التٓدخُّل يجب أن يركز على البواعث في بعدها المركب.

من يشتغل في الصحافة ينقل باستمرار حوادث انتحار، وينقل معها ما يتوصل إليه من أسباب وبواعث قادت لارتكاب الفعل، وشخصيا نقلت كثيرا حوادث انتحار في سياق مهمتي الإعلامية، لكنني لم أكن أكتفي بتغطية الحادث، وإنما كنت أبحث عن فهم عميق لما يجري، طبعا حتى لا يتحول العمل الصحافي إلى مجرد ” انتظار حادث انتحار مماثل”، ومن هذا المنطلق أنجزت ربورطاجا حول ” أسباب انتحار المغاربة” نشر في منبر إعلامي وطني.

في إحدى المرات عاينت واقعة انتحار بمحاذاة ولاية أمن مكناس ” المقر القديم”، لكن ما لفت انتباهي، وإلى اليوم ما زلت أفكر فيه، هو أن الشاب الذي تسلل إلى سطح عمارة من 9 طوابق، وقبل أن يرخي بجسده نحو الأسفل، بقي مدة 5 ثواني ممسكا بالسياج الحديدي قبل أن يقرر الذهاب بلا رجعة.. إلى اليوم أتساءل مع نفسي : في ماذا كان يفكر لحظتها!؟ من الممكن أن أقدم جوابا فأقول بأنه كان يبحث عن سبب واحد يجعله يعدل عن قراره، وبلغة نتشه يؤكد ” إرادة البقاء فينا”..

من هنا وجب الانطلاق لحماية الأرواح التي تزهق – ليس بدم بارد كما يعتقد البعض – وإنما استجابة لضغوطات حوّلت الموت إلى خلاص حقيقي، كما حوّلته إلى ما يشبه ” نجاة من حياة ” حيث يبقى تجريب الموت آخر الممكنات.

* أستاذ فلسفة وإعلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *