وجهة نظر

مع مبادرة النقد والتقييم (3/4)

في جدوى المبادرة

في المقال السابق من هذه السلسلة، سجلنا إحدى عشر ملاحظة نقدية حول مذكرة “مبادرة النقد والتقييم”، وخلصنا إلى أن “القيمة المضافة” للمذكرة، بعد ترويج مضامينها إعلاميا، تصب موضوعيا في حساب خصوم الحزب الذين يسعون إلى إضعافه في سياق انتخابي بامتياز. وأن النتيجة المتوقعة من تداعيات دعوة المبادرة داخل الحزب ليست أكثر من إضعافه بإشغاله بنقاشات قضايا ماضية يمكن تقييمها في المؤتمر العادي، في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تعبئة صفه الداخلي استعدادا لدخول انتخابات أراد خصومه أن تكون انقلابا على الديموقراطية التي تراهن مذكرة المبادرة على أن يلعب الحزب دورا في حماية مكتسباتها وتعزيزها.

ورغم أن الخلاصة السابقة كافية لتقييم المبادرة والحكم عليها، إلا أن استكمال مناقشتها لا يكتمل دون وضعها في السياق السياسي، وهو ما سنقاربه في هذا المقال من زاوية خاصة تتعلق بجدوى تلك المبادرة في السياق الحالي. وسنقرب الموضوع بإيراد بعض “موانع” تجعل المبادرة موضوعيا غير “ممكنة”، مع التنبيه إلى أننا وضعنا كلمتي “موانع” و”ممكنة” بين مزدوجتين لأننا لسنا أمام موانع قانونية غير قابلة للنقاش أو التجاوز، بل للتأكيد على أنها موانع تتعلق بالشروط الموضوعية.

لقد جاءت “مبادرة النقد والتقييم” منفصلة عن الواقع، لوقوعها في أخطاء منهجية بيناها في المقال السابق، وتتعلق بشكل عام بتحويل قضايا خلافية ماضية، وتقييم مبخس سلبي لتجربة الحزب وقيادته الحالية، وتقييم سلبي مبالغ فيه للوضع الداخلي للحزب، (تحويلها) إلى “الشجرة التي تخفي الغابة”. وهذا ما جعلها في مقاربتها لـ”الحل” ترتهن إلى شكل تنظيمي غير واقعي وغير “ممكن”.

هناك ثلاثة حقائق موضوعية تجاهلتها المبادرة وتشكل “موانع” حقيقية أمامها شكلا ومضمونا.

“المانع” الأول:

يتعلق بقرب تنظيم المؤتمر العادي للحزب، حيث لا تفصلنا عنه سوى قرابة سنة، وفي غياب أي سبب يضفي الاستعجال على مسألة النقد والتقييم التي تطالب بهما المبادرة، فسيكون الانشغال بعقد مؤتمر استثنائي أمرا غير معقول. لماذا؟ لأن المؤتمر الاستثنائي إذا قدر له أن ينعقد فلن تفصله عن المؤتمر العادي سوى شهور !

فلماذا سيعقد هذا المؤتمر الاستثنائي، بما يتطلبه من إعداد مادي ومعنوي، للقيام بما سيقوم به المؤتمر العادي بعد شهور؟ هل هناك مبررا لهذر الجهود والوقت على حساب الإعداد الضروري لجعل المؤتمر العادي في مستوى الانتظارات، بما فيها الانتظارات التي عبرت عنها مذكرة المبادرة؟ لا توجد أجوبة مقنعة عن هذه الأسئلة الحيوية، وليس هناك ما يدعو إلى الاستعجال، وليس في ما طالبت المذكرة بنقده وتقييمه شيء لا يمكن القيام به في المؤتمر العادي بعد شهور. والمؤتمر العادي، لا يكتفي بالنقد والتقييم، بل يتجاوزه إلى مراجعة وتعديل جميع وثائق الحزب المرجعية، وخطه واختياراته السياسية، وانتخاب قيادة جديدة، و … بمعنى أنه ينبغي العمل على أن يكون فيه الجواب الكافي عن كل الأسئلة الحيوية، والدواء الشافي لكل العلل.

“المانع” الثاني:

يتعلق بقرب تنظيم الانتخابات، وكما هو معلوم، فهذه السنة يتوقع أن تنظم جميع الانتخابات في فترة قصيرة، مما يتطلب من الأحزاب استعدادا استثنائيا. ومن بداهيات العمل السياسي الحزبي أن المشاركة الانتخابية، بعد المؤتمرات التنظيمية، هي أكثر ما يستنزف طاقتها وجهودها. وإذا كان تزامن الانتخابات مع تنظيم المؤتمر العادي شيء جد مكلف للحزب اضطر معه سابقا إلى تأجيله ليتفرغ للإنتخابات، فكيف بالحديث عن مؤتمر استثنائي لمناقشة قضايا ماضية، في سياق الاستعداد للانتخابات ولعقد المؤتمر العادي!

“المانع” الثالث:

يتعلق بتحديات المشهد الحزبي، والذي تخترقه ديناميكية نكوصية تهدد بفرض مقاربات لإفراغ الانتخابات من مضمونها الديموقراطي وفرز مؤسسات مبلقنة ضعيفة، تستعيد من خلالها السلطوية ولوبيات الفساد حريتها التامة في التحكم في الحياة السياسية. وبعد فشل الضغوطات السياسية والإعلامية في إرغام حزب العدالة والتنمية على التقليص الذاتي من حجم مشاركته الانتخابية، تحاول الأحزاب اللاديموقراطية تحقيق ذلك الهدف من خلال فرض تعديلات تقنية على القوانين الانتخابية تكون نتيجتها بلقنة المؤسسات المنتخبة، وإضعاف جميع الأحزاب، مما ستكون نتيجته المنطقية تضخم الأجهزة التنفيذية الناتجة عنها، وضعفها ووقوعها فريسة بيد التحكم بكل أشكاله وأنواعه. ونظرا للوضعية التي يوجد فيها حزب العدالة والتنمية كحزب وحيد في مواجهة مؤامرة الانقلاب على الخيار الديموقراطي، فسلاحه الوحيد في مواجهة مختلف التحديات هو تماسك صفه الداخلي، والتعبئة الشاملة والعالية لقواعده، وانخراط جميع أعضائه في النضال من أجل حماية المكتسبات الوطنية في مجال الديموقراطية الانتخابية.

وإذا استحضرنا التحديات ذات الطابع التنظيمي واللوجستيكي والمالي، والتحديات السياسية المتعلقة بالديناميكية النكوصية، سندرك أن فتح جبهات تشغل أعضاء الحزب وقياداته بغير ما تفرضه الساحة السياسية سيكون موضوعيا عاملا من عوامل إضعافه أمام خصومه، وسيصب في نهاية المطاف في حساب “الديناميكية النكوصية”.

وإذا اكتفينا بهذه “الموانع” الثلاثة وحدها (قرب تنظيم المؤتمر العادي، وقرب تنظيم الانتخابات العامة، وتحديات المشهد الحزبي) سنجد أنه لا جدوى من المطالبة بعقد مؤتمر استثنائي، اللهم إذا كان موضوعه هو تأجيل المؤتمر العادي لتوفير الجهود للحزب ليتفرغ لخوض معركة الانتخابات بما يتطلبه رفع تحدياتها المستجدة، وذلك على غرار ما تم في عهد الأستاذ عبد الاله ابن كيران.

إن الظرفية السياسية الحالية، بتحولاتها الدولية والإقليمية التي تتسامح وتتساهل مع النهج اللاديموقراطي وانتهاكات حقوق الانسان، والتهديدات المرتبط بالديناميكية النكوصية ضد الخيار الديموقراطي في المغرب، والهشاشة الناتجة عن تداعيات جائحة كورونا وخاصة في بعدها الاجتماعي والاقتصادي، وتربص الخصوم بوحدة الصف الداخلي للحزب وبالجاهزية النضالية لمناضليه، … كلها تحديات تفرض على مناضلي الحزب يقظة كبيرة، وتأهبا عاليا للدفاع عن الخيار الديموقراطي كخيار وطني واستراتيجي لممارسة السلطة ومواصلة الاصلاح ومحاربة الفساد، وتضحيات كبيرة لتعزيز خيار المشاركة وتقويته والرفع من مردوديته.

إننا لسنا في مرحلة يمكن فيها فتح أوراش الجدل حول قضايا ماضية يمكن تقييمها بشكل طبيعي خلال المؤتمر العادي وترتيب الجزاءات التنظيمية المستحقة حولها، ولكننا في مرحلة استثنائية خصوصيتها تفرض التركيز الكبير على “واجب الوقت” وراهن الاهتمامات، والذي ليس سوى تعزيز القوة الانتخابية للحزب، والتي ترتكز بشكل كبير على درجة تعبئة قواعده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *