وجهة نظر

المنطق الصوري في التحليل للعنف المبني على النوع يعيق المساواة

تأتي هذه المقالة في سياق نشر المندوبية السامية للتخطيط لثلاث مذكرات حول انتشار العنف ضد النساء والرجال في مختلف فضاءات العيش. رصدت المذكرة الأولى العنف ضد النساء والفتيات وقد نشرت بمناسبة الأيام الأممية لمناهضة العنف ضد النساء لسنة 2020؛ والمذكرة الثانية رصدت العنف ضد الرجال والفتيان؛ والثالثة قامت فيها بمقارنة كمية صرفة على أساس مبدأ المساواة بين النساء والرجال في إمكان التعرض للعنف أو ممارسته على حد سواء. وقد نشرت هاتان الأخيرتان تباعا خلال الأسبوعين الأولين من أبريل الجاري. وهو ما يجعل المندوبية السامية ومعها المغرب الرسمي محط مساءلة من لدن المجتمع المدني وبالخصوص في شقه النسائي والحقوقي، بل ويسائل أيضا منظمة الأمم المتحدة للنساء بالمغرب عن رأيها وهي شريك للمندوبية في هذه العمل. ويسائل أيضا المجلس الوطني لحقوق الإنسان عن رأيه باعتباره مؤسسة دستورية تعنى بقضايا النوع من ضمن ما تعنى.

تنشر المذكرات الثلاثة المعطيات الخاصة بالعنف التي استقيتمن البحث الوطني للعنف ضد النساء والرجال،والذي تم القيام به في إطار البحث الوطني لوقائع الحياة لدى النساء والرجال الذي قامت به المندوبية السامية للتخطيط خلال ستة أشهر بين فبراير ويوليوز2019 حول مستوى عيش الأسر المغربية. وقد شاركت فيه مجموعة من الجمعيات النسائية في مرحلته الميدانية. هذا البحث حسب المندوبية تم في كل التراب الوطني ومس 12 ألف فتاة وامرأة و3000 فتى ورجل من الفئة العمرية بين 15 و 74 سنة، خلافا للتقرير الأول لسنة 2009 الذي لم يشمل إلا الفئة العمرية 18و64 سنة،كما ان تصميمه حدث عليه تغيير، إذ اعتمد “منظورا أوسع”لفهم مختلف أشكال العنف في صفوف الضحايا ومرتكبيه في مصدره المزدوج الأنثوي والذكوري وذلك بغية تحليل التوارث الاجتماعي لهذه الظاهرة تماشيا مع المتطلبات الإحصائية لأجندة 2030. وقد نشرت المندوبية في موقعها البحث الكامل باللغة الفرنسية تحت عنوان ” تقرير العنف (بالجمع) الممارس على النساء والفتيات/ البحث الوطني للعنف ضد النساء والرجال.

وقد اعتمدت المندوبية السامية المقاربة التشاركية بالانفتاح على الجمعيات النسائية ذات الخبرة في مجال فهم العنف الممارس على النساء ومناهضته في عملية الرصد، وهو أمر مطلوب جدا للحصول على أجوبة قريبة من الواقع.فلم تكن المناضلات النسائيات اللواتي شاركن في عملية البحث الميداني راضيات على المنهجية وسجلن خروقات عديدة من زاوية النوع تم إبلاغ المندوبية بها. على سبيل المثال ما قام به المرصد المغربي عيون نسائية.

إن إشراك الجمعيات النسائية في هذه النوع من العمل توصي به منظمة الأمم المتحدة في الإعلان الأممي لمناهضة العنف ضد النساء، ولكن هذا الإشراك غير مستوف لشروط المقاربة التشاركية كما هو منصوص عليها في الوثيقة الدستورية علاقة بالمجتمع المدني الذي وجب إشراكه منذ المراحل الأولى للبحث الوطني وليس في محطته الميدانية. وهذه تجربة تستلزم الخروج من الدروس بالنسبة للجمعيات الشريكة للمندوبية في البحثين الوطنيين لانتشار العنف الممارس على النساء.

فأن تشرك المندوبية السامية الجمعيات وتنقلب على المرجع الوطني والأممي، فهذا لا ينم إلا على فهم مجانب للمعايير من طرف هذه المؤسسة. كما أن هذا يسائلنا جميعا جمعيات وأفرادا على طريقة تعاملنا مع الأرقام التي تنتجها المندوبية. إننا نقبلها وكأنها الحقيقة ولم نسائلها أبدا لأننا عشنا مرحلة تزيد عن ثلاثة عقود كان فيها همنا هو الإقناع بان هناك عنف يطال النساء يوميا وفي كل الأماكن وبالخصوص في الأسرة التي كان ينتظر ان تشكل مأمنا لهن. لقد آن الأوان للتعامل بحذر شديد مع ما ينشر من معطيات ولو كانت رسمية. بل وأن نؤكد على أن ارقام العنف مخيفة جدا وبالخصوص في العالم القروي.

وعندما تقول المندوبية أن العنف قد تراجع سنة 2019 مقارنة ب 2009، فهذا لا يستقيم والواقع الذي نعيشه يوميا، وأن هناك خلل في منظومة القياس برمتها. كيف يعقل ذلك، تزداد الديمغرافية، وينمو وعي النساء، وينضاف العنف في الفضاء الأزرق، وتزداد كل محفزات العنف من فقر وبطالة وهشاشة،وتحتد معها الأزمة المركبة القيمية والمجتمعية متوسلة في ذلك ما يتيحه عالم التكنولوجيا وما يمليه من تحولات عنيفة في طور العصف ب”استقرار” المجتمع الأبوي؛ كيف لا والحالة هذه ألا ترتفع اشكال العنف، أمر لا يصدق حقيقة.

علما أن البحث الوطني الأول شمل الفئة العمرية بين 18ـ64 سنة، بينما البحث الثاني وسع الفئة العمرية من 15سنة إلى 75 سنة.ورغم هذه الفرق الجوهري ذي الصلة بالعينة، سيتم القيام بمقارنة بين فئة 18ـ64 سنة في التقريرين للخروج بخلاصة عامة أن العنف قد تراجع عموما بستة نقط، وهو ما لا يستقيم لا منهجيا ولا واقعيا، ولا مبرر له سياسيا.

كما هو الشأن بالنسبة للمذكرة المتعلقة بالعنف المرتكب ضد النساء، فالمذكرة العنف ضد الرجال تتكلم عن جزئين الاول وهو الذي تم نشره ويتعلق برصد مدى انتشار ظاهرة العنف ضد الرجال، مع جزء ثان سوف يتم الفصح عنه لاحقا حول تمثلات الرجال لهذه الظاهرة على أساس مفهومي السلطة والسيطرة المرتبطتين بالعلاقات النوع وهو الوارد ضمن التقرير الشامل المذكور اعلاه.

إن بلاغ العنف الممارس على الرجال يوحي أن الأمر يتعلق بالعنف الممارس على الرجال من لدن النساء. وعلى كل حال هذا ما سيخرج به أي مطلع ليس له صبر القراءة الكاملة للبلاغ. وهو ما عكسته بعض المنابر الإعلامية، فعلى إذاعة أطلنتيك يختم المذيع استجوابه مع إحدى النسائيات قائلا ” … وهكذا فإن العنف لا لون له ولا جنس”، ويختم رشيد الهلاوي استجوابه في بودكاست بجريدة لومتان قائلا: « … il faut démystifier alors la violence contre les femmes ». والحال أن الأمر يتعلق بالعنف الممارس على الرجال في معظمه من لد الرجال أنفسهم، ولا يتعلق الأمر بالنساء إلا في جزء من العلاقات الأسرية والحميمية خارج إطار الزواج الذي سجل النفسي منه نسبة مرتفعة.

إن الأرقام التي أتت بها المندوبية السامية لا قيمة لها معرفية بالنسبة لمؤسسة رسمية من مهامها انجاز القياسات عبر البحوث قصد الاستهداف بسياسات عمومية. إذ لا تعرف الغاية السياسية الموجودة خلف هذه المعطياتالخاصةبالعنف الممارس عموما على الرجال من طرف الرجال، ولا السبيل لاجتثاثه. وهكذا وفي سياق اجتماعي مطبع مع العنف ضد النساء تؤكده كل الدراسات واستطلاعات الرأي، تفتح المؤسسة الرسمية الباب على مصراعيه للتشكيك في خصوصية العنف الممارس على النساء مجهضة كل المجهودات المبذولة لإحداث التغيير في العقليات.

لا يوجد مجال للشك في أن الرجال يعانون من بعض أصناف التمييز على أساس جنسهم وعلى أساس أدوار السيادة التي يتربعون عليها، مما يحرمهم من أن ينعموا ببعض شروط “الضعف”البشرية التي تصيبهم على المستوى الإنساني أوالاقتصادي أوالاجتماعي أوالجسدي في فترات من حياتهم، او قد يكونوا قد اختاروا بمحض إرادتهم ألا يتقمصوا أدوارا لم يختاروها. وبحكم موقع السيادة المفروضة على جنس الذكور في المجتمعات الأبوية، يتعرضون، كلما أخلوا في القيام ببعض الأدوار الرجولية، للتنكيل والترحيل إلى شرط النساء وبلا شفقة حيث ينكل بهم من لدن النساء أيضا وبعنف، ويطلق عليهم نعت ” امرا” أو ” انسيوة”. فيصبح الرجال في هذه الحالة منبوذين خارج المدينة الذكورية. وهذه الوضعية يعيشهاالمثليون وغيرهم من فئات الرجال الفاقدين “للأهلية” الأبوية. إن الرجال بلا شك لا يتمتعون بالحرية في تبني شروط أخرى غير تلك التي حددها لهم العقل الجمعي الذكوري، كأن لا يكونوا أبناكا مفتوحة ليل نهار بين أيدي النساء، وألا يتقمصوا أدوار الدركي بالبيت، وألا يكونوا بالضرورة خشنين…ألخ. هذه الفئات بالتأكيد قد تتعرض للعنف وبشدة من لدن النساء المستبطنات، وهن الأغلبية، للعقلية الرجولية. فالبحث حول العنف ضد الرجال كان بالأحرى أن يستند على هذه الأرضية في المقاربة والتحليل، إن كان الهدف هو فهم ظاهرة العنف المبني على النوع الممارس على النساء. إن العنف الممارس على بعض الفئات من الرجال يجب أن يصنف في خانة العنف الممارس على النساء لأن المجتمع الذكوري لا يعترف بهؤلاء كرجال.

ولهذا فإن العنف ضد الرجال كما قدمته المندوبية يبقى سجين تحليل صوري أجوف، لا فائدة منه علميا وسياسيا وينطوي على تناقضات نوعية وكمية، ولا ينم إلا على ممارسة جديدة لتعميق التمييز الجنسي ضد النساء وتقويته عن طريق “علم الإحصاء”. وعلى سبيل المثال لا الحصر، كيف يمكن تفسير أن يكون العنف النفسي يشكل أكبر عنف يتعرض له الرجال، 94%، وهم لا يعتبرونه عنفا أصلا إلا بنسبة 19%؟

إنه تقرير مغرض وغير محايدوهدفه تبخيس العنف وعمقه ضد النساء وإن نطقوا بعكس ذلك، لأن لا تفسير لعنوان البحث الذي يساوي بين النساء والرجال علاقة بالظاهرة (“: البحث الوطني حول العنف ضد النساء والرجال لسنة 2019”). وإن كان التقرير يشمل جميع أصناف المعنفين للرجال من الرجال ايضا وهم الأغلبية، فإنه يوحي بأن النساء هن المعنفات الرئيسيات لهم، لنشر خلاصة أن النساء لسن فقط ضحايا للعنف ولكنهن جلادات أيضا. قد تكون بعض النساء جلادات في سياقات خاصة جدا، لكن هذه لا يحميهن من التمييز والتحقير واللامساواة في السياق المجتمعي على أساس جنسهم. وهذا فرق كبير جدا يحتاج للتمييز من حيث المنهج والمقاربة في التحليل.

فالعنف الذي قد تمارسه النساء على الرجال، وهو منبوذ في كل الأحوال، قد يكون مرده إلى أمرين اثنين، إما أن يكون كشكل من أشكال مقاومة النساء للسلطة الأبوية، أو كعقاب لاختلال في أدوار الرجولة الأبوية. ولذلك فإن الحاجة إلى بحث خاص مستقل لمقاربة العنف ضد الرجال تعتمد على مفارقة ممارسة العنف ضد الرجال وليس الذكور، لأن الذكورة كمعطى بيولوجي أساس لسيادة الرجال، سوف يكون ذي فائدة لتفكيك ظاهرة العنف الممارس على جنس الأنوثة على أساس التمييز واللامساواة ضد النساء.

إن أساس أي تحليل للعنف المبني على النوع هو هذه القاعدة المبنية على مقولة “الجنس” كأساس لبناء ادوار اجتماعية وتوزيعها بشكل مختل، تبجل فيها الرجولة الأبوية، وتبخس وتضعف فيها المرأة وتجعل منها كائنا تابعا. وإذا كان المبتغى هو إقامة علاقات تسودها المساواة، فإن التحليل والتفكيك يجب أن يطال طرفي المعادلة بالأكيد لكن بمقاربة منسجمة تفضي لإعادة تركيب هذه العلاقة بشكل منصف بين النساء والرجال. فالمساواة لا تعني قلب هذه العلاقة السلطوية المختلة لفائدة النساء ضدا على الرجال، بل العمل على بناء طبيعة أخرى لعلاقات النوع، ليس على أساس السلطة والخضوع، ولكن على أساسالاختلاف والاحترام والمساواة في الحق والواجب كل حسب قدراته واختياراته واستعداداته الفردية وليس الجنسية.
عندما تقول المندوبية أن 50% من السكان تتراوح أعمارهم بين 15 سنة و74 سنة قد تعرضوا إلى فعل واحد من العنف خلال الإثني عشر شهرا التي سبقت البحث، 57% من بين النساء و42% من بين الرجال، بفارق 15 نقطة بينهما، وتخلص إلى أن العنف يمارس على الرجال وإن بحدة أقل. فأين هي مقاربة النوع هنا؟ والحالة هذه لا توجد من مقاربة إلا مقاربة صورية مبنية على الجنس ليس إلا.

ولنتوقف قليلا عندما تقر بأن الفضاء الزوجي يبقى الفضاء المعيشي الأكثر اتساما بالعنف بالنسبة للنساء والرجال معا. ترتكب 53% من جميع أشكال العنف التي تتعرض لها النساء و39% من جميع أشكال العنف التي يتعرض لها الرجال، من طرف الشريك/ة الحميم/ة. إن الفضاء الزوجي والشريك الحميم مقولتان تستوجبا القراءة. فإذا كان الأمر يتعلق بالفضاء الزوجي، فإن الشريك في هذه الحالة هو الزوج أو الزوجة، وإذا تعلق الأمر بالشريك الحميم، فإن الأمر يتعلق بعلاقات خارج مؤسسة الزواج. ومن هنا ضبط المصطلحات يعتبر من أساسيات انسجام التحليل والتفسير والتأويل. ودائما وانسجاما مع المنطق الصوري لمقاربة المندوبية، فإن من ضمن خلاصاتها الصادمة والمضحكة في نفس الآن، أن العنف الذي سجل أعلى نسبة وأكثر انتشارا بين النساء والرجال هو العنف النفسي، والذي يتعرض له الرجال أكثر من النساء، إذ يشكل 73% من العنف الممارس على الرجال وفقط 54% لدى النساء. وهنا مربط الفرس. المندوبية تريد أن تنشر اعتقادا بأن الرجال أشد معاناة نفسيا من النساء على الإطلاق، مما يدل على قصور مفهومي في مقاربة المندوبية لأصناف العنف وجب تصحيحه. إن كل الأصناف الأخرى من العنف تترك آثارا نفسية لدى المعنفة.

إن انتشار العنف الذي تتعرض له النساء والرجال بالنسبة للمندوبية لا يعدو مسألة اختلاف في الأرقام ليس إلا، وإن كان يمارس على النساء أكثر في جميع فضاءات العيش وبمختلف أشكاله. إذ الفوارق الرقمية قد تصغر أو تكبر حسب نوع العنف. فتسجل المندوبية 13 نقطة كفارق على مستوى العنف الاقتصادي، و12 نقطة بالنسبة للعنف الجنسي، و10 نقط بالنسبة للعنف النفسي، ونقطتان فقط بالنسبة للعنف الجسدي. ووفق مجال العيش، فإن الفارق 16 نقطة في الفضاء الزوجي، و11 نقطة في مؤسسات التعليم والتكوين، و7 نقط في الفضاء العائلي و3 نقط في الأماكن العامة. والأهم من ذلك فإن الرجال يتعرضون للعنف في أماكن العمل أكثر من النساء بنقطة واحدة. تذكرنا هذه الأرقام بتحذيرات في الحساب تعلمناها في الطفولة، الجمع بين 7 طماطم و3 بطاطس لا تعطي 10 بطاطس. إن هذه الأرقام تخلط بين من يرتكب العنف، أكان من طرف الذكور أو الإناث، فذلك لا يهم في الوقت الذي تنبني مقاربة النوع للعنف على العلاقات الاجتماعية بين النساء والرجال. إنها فعلا مقاربة كمية عمياء من حيث النوع وليست محايدة.

كيف يستقيم عنوان من هذا القبيل: “تراجع العنف النفسي والجسدي، وتزايد العنف الجنسي والاقتصادي”؟
تراجع العنف النفسي يضعنا أما معضلتين، إما غموض في ضبط محدداته من طرف المندوبية واختزاله في أشكال بارزة جدا وعدم الاعتراف بحضوره الدائم مع كل الأشكال الأخرى، واحتسابه لا يعتمد فقط على الأجوبة ذات الصلة المباشرة بسؤال العنف النفسي، بل حسابه يجب ان يكون تراكميا لكل الأشكال الأخرى. لا يمكن ان تعنف امرأة جنسيا أو اقتصاديا أو جسديا دون ان يكون لذلك أثر نفسي. كما أن العنف الجنسي يجب ان يضاف في احتساب العنف الجسدي لأنه أيضا علاوة على أنه جنسي فهو أيضا جسدي، وهكذا سوف تصبح الأرقام مختلفة وقريبة من الواقع. فهناك ترابط بين العنف الجنسي والجسدي من جهة، والعنف الجنسي والجسدي والاقتصادي والثقافي والقانوي بالعنف النفسي من جهة أخرى. وإذا ازداد العنف الاقتصادي والجنسي، ازداد بالضرورة العنف الممارس على النساء لأنه عبارة عن منظومة متراصة ومتضامنة فيما بينها.

ما هي القراءة التي يجب القيام بها لتزايد العنف الجسدي في المناطق القروية بأربعة نقط منتقلا من9% في 2009 إلى 13% سنة 2019؟ تخلص المندوبية إلى أن الاتجاه العام للعنف يتسم بالانخفاض في المناطق الحضرية والارتفاع في المناطق القروية في مختلف فضاءات الحياة باستثناء الأماكن العامة. لنمحص المركب المصطلحي “الأماكن العامة” هل هو واحد في المدينة والقرية؟ وهل العلاقة به متكافئة بين النساء والرجال؟ ماذا يعني تزايد العنف المنزلي بنقطة واحدة مع تراجعه في باقي الفضاءات الأخرى، أي الفضاء العام والمدرسة؟

إن كل هذه التخمة الرقمية التي أوردتها المندوبية حول العنف ضد الرجال لا قيمة لها معرفية، إذ تعطي صورة على الكسل الفكري الثاوي خلفها المكتفي باستبدال مقولة “النساء” بمقولة “الرجال” في مقاربة بنيت على الأسس المذكورة أعلاه. فهي غير مقبولة في كل الأحوال لعدم وحدة مرتكبي العنف لا بيولوجيا ولا اثنيا، ولا جغرافيا ولا ديمغرافيا… وعليه فهو بحث سوف لن يساعد على بناء برامج تستهدف محاربته. عنف عارض يمارس في سياقات خاصة جدا إذا ما كانت النساء هن الممارسات لهذا العنف، أو عنف عام مبني على علاقات مختلة على أسس أخرى اقتصادية كانت أو عرقية أواجتماعية اوغيرها.

إن العنف الممارس على الرجال كما جاءت به المندوبية لا يمكن نكرانه في مجتمعنا الابوي المتخلف المطبع مع العنف، فهو يمارس على الجميع بما في ذلك الطبيعة من حيوانات وغيرها. فأن تفرد تقريرا خاصا بالرجال لا يخلو من خلفيات مريبة وغموض فلسفي ومنهجي للعنف المبني على النوع. بالخصوص إذا اعتبرنا أن ملف العنف ضد النساء هو الملف الوحيد المتفق عليه بين القوى الحية بالبلاد. ولذلك وجب الوقوف عند مقاربة العنف من زاوية النوع من حيث فلسفتها ومنهجها.

إن مفهوم النوع ولد من رحم الفكر النسائي المعاصر…ودعامة منهجه الأساسية هي العلاقات الاجتماعية بين النساء والرجال المبنية على اختلال تاريخي في السلطة بينهما لفائدة الرجال، أي علاقة تسود فيها الذكورة وتخضع فيها الأنوثة. هذا الأساس هو الذي يجعل من النساء جنسا معنفا بكامله وبدون استثناء وإن على المستوى الرمزي، وهذا ما ينتفي لدى جنس الرجال. فالتمييز على أساس الجنس واللامساواة بين النساء والرجال يشكلان العنف الأصلي الذي تنبني عليه كل أشكال العنف الأخرى.

فلا فائدة علمية أو سياسية ترجى من وراء هذا التقرير الخاص بالعنف ضد الرجال. بل لا يمكنه إلا أن يغذي الغموض والضبابية ويخلط الأوراق، بل ويقدم خدمة جليلة لجميع أشكال المحافظين والمحافظات. لدى من الواجب فتح نقاش حوله لتفكيك خلفياته وتداعياته على النساء والرجال وعلى المجتمع بشكل عام.فكم ناضلت الحركة النسائية وخاضت معارك مزدوجة ضد كل من المجتمع والدولة لما يمارس على النساء من العنف، من أجل فضحه وإخراجه من غرف النوم. وكم نبهتالسلطات العمومية لتقوم بأدوارهامن أجل اجتثاثه عبر سياسات عمومية فعالة مبنية على معطيات واقعية ودقيقة. ومحاربة هذه الظاهرة الخطيرة ذات الكلفة الكبيرة على النساء والمجتمع والدولة، غير متأتاه إذا لم تتم مقاربته بشكل شمولي باستهداف المنابع المنتجة للتمييز المبني على الجنس. وأما أن تعنف امرأة رجلا، أو أن يعنف بضع مئات من الرجال من طرف بضع مئات من النساء فذلك لا يمنح أية شرعية لشبه بحث للعنف الممارس ضد الرجال من لدن النساء. ولا يقلب العلاقات بين النساء والرجال المبنية على السلطة غير المتكافئة لصالحهن؛ ولا يحدث انقلابا في القيمة الرمزية للمرأة لتنتقل إلى عالم هيمنة الرجال. ولذلك فعندما يعنف الرجال، فهم ليسوا ضحايا العنف المبني على النوع. إن الإمعان في تحويل الضحية إلى جلاد شكل جديد للتمييز الجنسي الممارس ضد النساء ومقاومة لجهود المساواة على أساس النوع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *