منتدى العمق

البرقع بين جدل الفقهاء ومنع الدولة

في معاجم اللغة وقواميسها تعني كلمة “بُرْقُع” ذلك اللباس الذي يُتَّخذُ لتغطية الوجه،سواء كان هذا الاستعمال للمرأة، أو للرجل في خوذته للحرب، أو للحصان وغيره من الحوافر، لكن المصطلح شاع استعماله في لباس المرأة خاصة، وهو المرادف للنقاب والخمار. ويختلف شكل هذا البرقع ولونه الطاغي من منطقة إلى أخرى ومن زمن إلى آخر، متأثّرا إما بقرارات السلطة السّياسية، أو بطبيعة المرجعية الفقهية للنخبة الدينية النافذة في المجتمع.

والبرقع للمرأة في ميزان الشريعة كان –ولا يزال- محط خلاف بين علماء الإسلام منذ العصر الأول، ولا يكاد يخلو كتاب فقه من هذه المسألة التي هي في أصلها فرع خاض فيه البعض حروبا كلامية سيل فيها الكثير من المداد، وتنافرت فيها أقوام من هوّاة الجدل، حتى ظنّت خُلوفٌ من المسلمين أن النقاب أصل يُصنّف على إثره الناس بين متّبع ومبتدع، والقائل به عالم وغيره جاهل.

وبناءً على ذلك غالى البعض في القول بوجوب تغطية الوجه للمرأة، ونسبوا ذلك إلى السلّف الصالح نسبة فيها نظر، وحاولوا جمع الأدلة على ذلك، غثَّها وسمينَها، وفي بعض الأحيان بالترقيع أيضا، كما وقع في لصق آية الحجاب: “يا أيها النبيء قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهن من جلابيبهن” بآية الجلباب: “فاسألوهن من وراء حجاب” على زعم معناهما واحد، وذلك أنه أعوزتهم دلالة “الإدناء” في اللّغة عن الاستدلال بها، فاستنجدوا بآية الحجاب عَلّها تُقوّي مقالهم، والحقيقة أن الآية الأولى في البروز من المساكن، والثانية في حال مخاطبتهن فيها كما قال الشيخ ابن تيمية رحمه الله.

وفي المقابل من ذلك نجد جمهور الفقهاء من عصر الصحابة رضي الله عنهم وإلى اليوم على القول باستحبابه فقط، واعتبار وجه المرأة وكفّيْها خارج مراد الشرع بالعورة، ولهم أدلتهم الكافية الشافية التي تدحض وجوبه، والقائلون بهذا الرأي أكثر من يحصون، حتى ألّف الشيخ الألباني رحمه الله كتابا في المسألة سماه “الرد المُفحِم على من خالف العلماء وتشدد وتعصّب، وألزم المرأة أن تستر وجهها وكفّيها وأوجب، ولم يقنع بقولهم: إنه سنة ومستحب” وفيه دافَع بالألة النقلية عن رأي الجمهور، وأقرّ بشذوذ النَّظر الأوّل رادا اعتماد أهله على العاطفة إذ قالوا إن أجمل ما في المرأة وجهها لذلك يجب عليها ستره. مستدركا عليهم -رحمه الله- بكلام لطيف طريف: “وأجمل ما في الرجل –بالنسبة للمرأة- وجهه، فمُرُوا الرجال أيضا أن يستروا وجوههم أمام النساء” !!

وإن كان أصحاب الرأي الأول أفرطوا في القول بوجوبه، فهناك رأي ثالث أشذ منه، وهو إلى اللّغو أقرب، قال أصحابه بأن النقاب ليس من الإسلام في شيء، شيخ الأزهر الأسبق علي طنطاوي -رحمه الله- أبرز القائلين به في العصر الحديث، وهو قول غير معتبر في الخلاف الفقهي القائم في المسألة.

وأبدع ما في الباب من الإنصاف للنقاب، ما كتبه الإمام يوسف القرضاوي -حفظه الله- في كُتيّب صغير سماه “النقاب بين فرضيته وبدعيته” ذهب فيه إلى اعتماد رأي الجمهور في استحبابه ورد القول بوجوبه وفرضيته، وهدَم دعوى بدعيته.

وتجدر الإشارة إلى أن تناول هذه الجزئية ينتمي إلى نقاش حقيقة التبرج، الذي يعتبره أنصار الرأي الشاذ متحقق بمجرد إسفار المرأة عن وجهها وكفّيها كما يعبر عن ذلك الشيخ حمود التويجري رحمه الله في كتابه “الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور”، كأنموذج من المدرسة الوهابية التي تتبنى –في أغلبها- هذا الرأي وتركن إليه، بل وتُسوّقه في صورة الإجماع عليه ومخالفته ابتداع،نظرة إلى المرأة إقصائية في جوهرها، تنضاف إلى مجموع نِقاط فكرٍ ذكوري قائم على تعطيل دور المرأة في معركة بناء الأمة.

ثم إن اختزال التبرج في إظهار بنات حواء للوجه والكفين هو تنظير قاصر، خاصة وأنه من الضروري إبداؤهما في حياتهن اليومية كما قال ابن قدامة الحنبلي رحمه الله في مُغْنِيه، بل التبرّج أوسع من ذلك وأعقد، إذ مفهومه بنظر أوسع وأشمل هو خروجها من البرج الذي خصصه لها الشرع الحكيم، وستر العورة جزء منه، لا كله، وفي ذلك يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله في كتابه تنوير المؤمنات: “التبرج الكلي هو خروج المرأة من برجها الإسلامي مظهرا ووظيفة وأخلاقا ودينا.

هو ميلها عن الإسلام وخيانتها لمهمتها الحربيةا لقتالية في صد الجاهلية والدفاع عن الإسلام وإرساء ركائزه وتشييد بنيانه. إذ البرج الذي خصصه القرآن وجسدته السنة للمسلمة ليس سجنا وخنقا وجدرانا”.

وإذا تقرر أن النقاب أو الخمار أو البرقُعُ ضمن التراث الإسلامي وغير بعيد عنه أو دخيل عليه، فإن احترام المسلمات اللواتي اخترنه موضة وتعبّدا، سواء على سبيل الفرضية أو الندب، يبقى واجبا على كل من تَحَصَّلَ لديه الخلاف، ومن الظلم قمع حريتهن في ذلك، بل من الإثم حمل الناس على ما لا يرونه حقا في ميزان الشريعة. وفي هذا الإطار يأتي النكير على خطوة منع وزارة الداخلية لصنع واستيراد وبيع هذا النوع من اللباس، خطوة هي أقرب بتخلُّفِها إلى القرارات التي أصدرتها بعض الدول الأوربية من قبيل (منع النقاب وتغريم أهله، ومنع الأذان والمآذن، والتنورات الطويلة) وغير ذلك.

قرار المنع هذا يجعلنا نطرح مجموعة من الاستفهامات التي بالإجابة عنها يتّضح خطأ الوزارة أصالة، ومعها خطأ من انساق معها مُطبِّلا للقرار فَرِحا مستبشرا استبشار النُّفَسَاء بعد طول عُقم:

أوّلا: معلوم أن الدول الديمقراطية تقوم على احترام المؤسسات وصيانة الإرادة الشعبية، وبالتالي تصدر قراراتها بشكل ديمقراطي يفرض ذاته على مستوى التنزيل بقوة شرعية تلك المؤسسات المنبثقة عن اختيار شعبي، لكن في نازلتنا هذه تغيب هذه الآلية بشكل تام، إذ إن قرار المنع بُلِّغَ للباعَة والصنّاع شفهيا على ألسنة القُوَّاد وأعوان السلطة، وفي بعض الحالات توصل التجار بإشعارات موقعة فعلا، لكنها لا تستند إلى أي وثيقة وزارية رسمية، فهل هذا القرار شرعي في الميزان الدستوري؟

ثانيا: أليس من الميز العنصري منع بيع هذا النوع من الأزياء في غياب تعليلات معقولة؟ كما إن منعه يعبر عن مرحلة أولية لحظره في المستقبل، وهذا يعتبر تخلّفا في ميزان حقوق الإنسان، لأنه اعتداء على حرية اللباس، ومن جهة أخرى يُطرح سؤال المغزى من هذا القرار أمام الصمت المطبق عن الألبسة الفاضحة، والتي هي أولى بالمنع في دولة تتخذ من الإسلام قاعدة دستورية.

ثالثا: هل القول بغرابة البُرقع أو النقاب عن ثقافة المغاربة ونمط تديّنهم يُقنِع قائليه؟ بالأحرى أن يُقنِع غيرهم، كيف ذلك وأسواق المملكة غاصة بملابس كل الثقافات والأنماط المجتمعية والدينية، خاصة منها الغربية التي تتنافى مع قيم وعقائد المغاربة، ما يضرب هذا التعليل الأعرج عرض الحائط.

رابعا: كيف لدعاة الحرية من العلمانيين والحداثيين والمنظمات النسائية وغيرهم مباركة هذا الخرق السافر لقيم حقوق الإنسان؟ في حين كان عليهم الاصطفاف إلى جانب المستهدفات من هذا المنع، إن لم يكن من منطلق الإيمان بدلالته، فانسجاما مع الشعارات التي يرفعونها براقة أمام الرأي العام مع كل حادث استنكار العري والخلاعة، لكنهم أخلفوا الموعد مع التاريخ باختيارهم الانحياز إلى كفة الاستبداد عوض مناصرة قيم التقدمية وعدم الانتقاء.

مسايرة الغرب في فرض نمطية العيش شكل من أشكال الاستكبار العالمي الذي يبسط سيطرته على أمة ويتحكّم في سيرورتها المجتمعية وتطورها، بل وترويضها على قبول المستورَد شكلا ومضمونا، حقيقةٌ تجاوزت الطابع الاقتصادي والثقافي والسياسي، إلى المس بالأساس العقدي للمسلمين كما تحدثّ عنه الإمام سيد قطب وسماه “الإسلام الأمريكي”. والتبعية العمياء للغرب التي تنهجها الأنظمة العربية، تزيد من نسبة التطرف الذي يستقطب شباب الأمة يوما بعد يوم، وتكرّس التخلف الذي ينخر الجسم الإسلامي، في أفق الانهيار الكامل لنظامها الإنساني ما لم يقيض الله لها من يبعثها من سُباتها لتنهض بهمة البطولة وسير الإقدام لتفرض ذاتها بين الأمم.