وجهة نظر

أي ميثاق من أجل نموذج للتنمية ؟

أكد ملك البلاد على أهمية فتح ورش التفكير في نموذج للتنمية و أسس لجنة ضمت كفاءات و عملت رغم أزمة الكوفيد على إخراج تقرير مهم منفتح على النقد البناء و على تفاعل المجتمع جغرافيا و سياسيا و واجتماعيا. المسؤول الأول عن التقرير نزل إلى الميدان إلى جانب أعضاء من اللجنة و سمع و ناقش بالكثير من الهدوء إشكاليات يطرحها واقع معاش. و لأن كلام اللجان قليلا ما يخرج من الأدراج إلى تقييم المواطن، فإن ملك البلاد طلب العودة إلى الأرض و تقاسم تقرير اللجنة الخاصة مع الكثير من الفاعليين. و حتى لا نغرق في التبسيط الشعبوي وجب القول أن مناقشة التقرير لا يمكن أن تتم بدون تملك أدوات التحليل السياسي و الإقتصادي و البيئي و المهني. التقرير ليس ورقة للتعبئة السياسية و لكنه دعوة إلى من لهم القدرة على التحليل و الفعل في الواقع. و حتى نكون أكثر وضوحا وجب التأكيد على أن أول المسؤولين على الإهتمام بتقرير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي هم الأحزاب و النقابات وكونفدرالية المقاولات المغربية و السلطات العمومية و القضاء. لا يمكن البث خارج هذه السلطات و المؤسسات في ما سيؤول إليه تقرير النموذج التنموي الجديد.

أكد التقرير على كثير من الأولويات الهيكلية و صنف سلم صعوبة مواجهة الفرامل التي تتطلب المواجهة الصارمة و الفعالة للقضاء على آثارها. و حتى لا نساهم في اجترار ما ورد في التقرير و ملاحقه، وجب الاقتصار على ما هو ذو طبيعة هيكلية، أي ما يمكن التركيز عليه لبناء ميثاق وطني حول التنمية التي نريدها لوطننا. ولأن الطبع يغلب التطبع، أصبح من اللازم كسر الحواجز التي بنيناها جميعا بسبب طبيعة العمل السياسي و الإقتصادي و الجمعوي خلال السنين الأخيرة. أصبح كلامنا عن الحكامة شكليا و متسامحا حتى تضخمت شكليات الممارسة السياسية و ضعفت قيم النقد الصريح الذي صاحب كتابة دستور 2011. كثير من النخب عبرت عن إنتصار المؤسسات على مظاهرات 20 فبراير 2011 و ظنت أن المسببات قد اختفت. و قد اعتبرت بعض القيادات الحزبية أنها صاحبة الفضل في تجاوز المغرب لما سمي بالربيع “العربي ” . و لهذا يجب على الفاعل السياسي أن يقرأ جيدا واقع الحال و اعتبار السلم الاجتماعي و الإستقرار السياسي ورشا يتطلب العمل اليومي و البناء الإستراتيجي طويل الأمد.

وهناك عنصر أساسي في التفكير يعكس واقع سيطرة نخبة فرانكونية على منهجية التفكير. و كثير من هذه النخبة لا تعرف عن واقع المجتمع المغربي إلا القليل و بالتالي فقراءتها لمعركة التنمية الفاعلة في مستقبل المغرب تظل حبيسة شعارات بعيدة عن واقع طبقات شعبية تعرف الدولة من خلال شخصيات القاءد و الباشا و المقدم و صاحب المال في علاقاته مع السلطة و قدراته على التسلط. صحيح أن النقاش كان عريضا ووصل اجتماعيا إلى فءات عريضة لكن كثيرا من أعضاء اللجنة ظلوا حبيسي نظرة تقنوقراطية و فوقية على واقع صعب و معقد. و رغم الانفتاح المطلوب لا يمكن اعتبار تغييب من يمكن أن يمثل الأسرة و الحي و الصانع التقليدي و الفلاح البسيط و غيرهم عن المساهمة في وضع التقرير شيئا إيجابيا. و كأن العالم العارف المتمكن من قراءة واقع الحال لا يمكن أن يكون فاعلا مجتمعيا لا يتقن اللغات و أن يكون خريج المدرسة المغربية و صاحب تجربة في التعامل مع المستشفى العمومي. و لهذا كان التقرير شحيحا في التعامل مع قضايا الحكامة و القضاء و المسؤولية السياسية الحقيقية.

ولأن القوة التي يتطلبها كل إقتراح تكمن في قوة وساءل التنزيل و التنفيذ على أرض الواقع، فلا يمكن تفعيل التغيير بما نتوفر عليه حاليا من وساءل مؤسساتية و بشرية و سياسية. جميل أن نضيف بعض المقترحات إلى ميثاق التربية والتعليم و التكوين و لكن ما سيكون أجمل هو تحرير قطاع التربية والتعليم من تناقض السياسات و إدماج النقابات في خطة تغيير حقيقي دون الإخلال بمقتضيات الدستور. و ستظل مقترحات اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي مجرد توصيات تتطلب التزاما و فعلا سياسيا في الواقع. و يظل الفاعل السياسي يتساءل عن علاقته بتوصيات هذه اللجنة و عن ما سيتبقى لديه من هامش في بناء برنامج سياسي يخاطب من خلاله من يتمنى أن يصوتوا على مرشحي حزبه.

إن كلمة ميثاق تعني الكثير و تحمل الكثير من الإلتزام و التخلي و لو مرحليا عن الإنتماء السياسي و الحزبي. الميثاق هو نوع من القسم العظيم على عدم التخلي عن مبادىء و عن خطوات و برامج و مناهج لتنزيل ما صدر عن اللجنة من توصيات. و السؤال الذي سيظل مطروحا هو ما سيؤول إليه العمل السياسي حين ستجد الأحزاب حيزا ضيقا في كل القطاعات مع وجود مرجعيات و أولويات سهر عليها تقنوقراطي لم يلتزم أبدأ بفعل سياسي. السؤال سيبقى في الأخير سؤالقرار بين الإختيار الديمقراطي الحقيقي و تفويض ممارسة السياسة لنخبة لا تؤمن بمن تبقى من فاعلين يؤثثون المشهد السياسي الوطني. و لعل جلسات الإستماع التي نظمتها اللجنة كفيلة بترجمتها إلى واقع ملموس في مجال حرية التعبير و المعتقد و الفعل كما تم تسجيلها و توثيقها. تكلم رؤساء الأحزاب بكثير من الذكاء و ثمنوا عمل اللجنة دون أن يعتبروا عملها نهاية مسار أو منهجا ملزما في المستقبل.

و لكل هذا يطرح موضوع الميثاق حول النموذج التنموي الجديد إشكالية عميقة تتمثل في إعادة النظر في ماهية العمل السياسي.و لكل هذا وجبت كتابة الميثاق المنتظر بكثير من الذكاء و التروي مع التركيز على الحكامة و ضبط إدارة الإقتصاد في المجال الذي لا تتحكم فيه الأحزاب و مؤسسات المجتمع المدني. و لا يمكن أن تتم قراءة الوضع الحالي خارج الدور المتراجع لكثير من مؤسسات الحكامة التي أسسها دستور البلاد في مجالات المنافسة و حقوق الإنسان و محاربة الرشوة و قضايا الإقتصاد و البيئة و غيرها. كما لا يمكن إغفال الجمود الذي أصاب هذه المؤسسات منذ بداية اشغال اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي. و لكل هذا أصبح من اللازم أن يكون الوضوح كبيرا في صياغة الميثاق و أن يكون مرجعا شاملا دون الإخلال بقواعد التنافس السياسي و المجتمعي. و من اللازم التأكيد على أن العمل السياسي يجب أن يتقوى عبر التزام الأحزاب بإختيار نخب تترفع عن ممارسة السياسة بهدف الاستغلال و الاغتناء السريع و إستهجان المواطن. الميثاق يجب أن يتضمن نقطة أساسية ووحيدة تتعلق بتغيير الحكامة في كافة القطاعات. تكلم التقرير عن فقد الثقة قي كثير من المؤسسات و أسباب هذه الحالة يكمن في نوعية الحكامة. التربية و التعليم و الصحة و الإستثمار و التشغيل و غيرها من المجالات تحتاج إلى حكامة ديمقراطية حقيقية تضمن الحرية والعدالة و ضمان الإنتصار لحقوق الإنسان و القضاء على إقتصاد الريع و الاستغلال. من تتبع عمل اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي لا يمكن إلا أن يزداد يقينا عن ضعف آليات التتبع من طرف مؤسسات الدولة و منظمات الوساطة السياسية و الإجتماعية. المطلوب إذن تغليب الفعل المؤسساتي و ثقافة التتبع و المراقبة في كافة المجالات. أما التوجهات القطاعية فكثيرة هي السياسات التي وضعت من أجل تنميتها و قليلة هي الوسائل التي رصدت لتتبعها و تقييمها. و في الختام وجبت الإشارة إلى أن النخبة الفرانكوفونية لا زالت صاحبة الرأي في التوجيه و التحليل و أن مبدعي الثقافة المغربية المؤسسة للشخصية الوطنية لم يحضروا إلى جانب التقنوقراط للإسهام في هذا الورش الكبير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *