وجهة نظر

وزارات السيادة بين الدستور المغربي ومنطق الممارسة السياسية

بعد الإعلان عن نتائج انتخابات 8 شتنبر 2021 والرأي العام في انتظار تشكل الأغلبية الحكومية والتعرف على الأحزاب المتحالفة؛ في حين أن مجموعة من الباحثين والمهتمين بالشأن السياسي سارعوا إلى ذكر أسماء الشخصيات السياسية المحتمل استوزارها، والقطاعات التي تناسبهم؛ لكن الغريب في الأمر، أن أغلب من تحدث، في هذا الشأن، استثنى ما يطلق عليه الوزارات السيادية، لاسيما الحقائب الوزارية المتعلقة بالأوقاف والداخلية والخارجية، فضلا عن وزارة الدفاع، التي يحرم سياسيا الإشارة إليها.

وتفاعلا مع هذا، أحببنا إثارة نقاش هادئ، حتى إن اتضحت بعض الأمور، استطعنا بناء موقف سياسي واضح، غير ملتبس، تجاه الحكومة المرتقب تعيينها، كما سبق لكثير منا اتخاذه بخصوص الحكومتين السابقتين؛ ويتعلق الأمر بحكومة عبد الإله بن كيران، وحكومة سعد الدين العثماني.

عند الرجوع إلى نصوص الدستور، نجد أن الباب الثالث منه قد فصل كثيرا في اختصاصات الملك، وتأكد على أن الملكية بالمغرب كغيرها من الملكيات في العالم، تحكم وتسود؛ غير أن الواقع السياسي يختلف من دولة لأخرى، مما يجعل الوضع السياسي ببلادنا غير الذي نراه في غيره من البلدان، ما يؤدي بكثير من الباحثين إلى وصف الملك عندهم بأنه يسود ولا يحكم؛ ولعل هذا الموقف سيرفضه كثير ممن يتحدث في السياسة بلغة العواطف التي لا يقبلها تدبير الشأن العام، بعدما جعلوا من القنوات الإخبارية مرجعا، وممتهني المعارضة مرشدين.

حتى لا يكون حديثنا رجما بالغيب، سأشير إلى تجربة جارتنا إسبانيا وبلجيكا؛ حيث أن نظام الدولتين نظام ملكي؛ ومما لا شك فيه، أن الكثير منا يسمع أن نظام الملكية، في كلتا الدولتين، ناجحا، لاعتباره نظاما ملكيا برلمانيا، عكس النظام المغربي؛ ولكن المطلع على دساتير الدول الثلاث بعد المقارنة، يقول غير الذي نسمعه هنا وهناك؛ لأن النظامين الملكيين لجارتينا يعطي من الصلاحيات للملك ما يجعله مشابها للملك في المغرب، مع وجود بعض الاختلاف طبعا، يصعب تفصيله هنا.

بعيدا عن الخوض في أمور معقدة تخص النظام الملكي في أي بلد، فإن ذكره يجرنا بالأساس إلى محاولة إثارة موضوع استقلالية وفصل السلط الثلاث عن بعضها البعض؛ حيث يتعين أن يكون هناك نوع من التعاون دون أن يؤثر ذلك على استقلالية سلطة ما عن الأخرى؛ لأن الفصل المتحدث عنه لا يمكن أن يكون إلا مكتوبا في كتب الفلسفة وعلم السياسة؛ غير أن خلق التوازن بينها ممكن الحدوث في الواقع على مستويات متفاوتة؛ ولهذا فإن الفيلسوف والفقيه السياسي مونتسكيو في كتابه روح الشرائع رجح ما أشرنا إليه أعلاه قبل قرون؛ وعليه، فإن طغيان سلطة على أخرى مرتبط أساسا بموازين القوى، وبعدها يأتي في الترتيب قوة القانون، الذي يتأثر إنتاجه بتلك الموازين.

وبالتالي، فإن السلطة التنفيذية، حسب الباب الخامس من الدستور المغربي، تمارس من طرف الحكومة التي تعمل تحت سلطة رئيسها (الفصل 89)، المعين من طرف جلالة الملك والذي ينتمي وجوبا إلى الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب (الفصل 47)؛ كما أن الدستور أعطى للحكومة حق تنفيذ برنامجها الحكومي الذي حصل على ثقة مجلس النواب عبر التصويت بالأغلبية المطلقة؛ والبرنامج الحكومي يتضمن وجوبا الخطوط الرئيسية والتي تهم أساسا ميادين السياسة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية والخارجية؛ وللحكومة حق التداول في السياسة العامة والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، قبل عرضها على المجلس الوزاري الذي يترأسه الملك؛ وأيضا لها حق التقرير في السياسات العمومية وغيرها من القضايا والنصوص، التي لا يسمح المقال بالتفصيل فيها أكثر.

وبالتالي، فإن السلطة التنفيذية، حسب ظاهر نص فصول الباب الخامس من الدستور، تمارسها الحكومة؛ لكن فقهاء القانون الدستوري لم يحسموا الأمر، لأن قراءة تلك النصوص الدستورية الواردة في الباب الخامس على ضوء النصوص المتعلقة بالملكية يخلق جدلا دستوريا، يصعب معه تحديد المسؤوليات؛ بل يرجح تحكم الملك في الحكومة ورئيسها، أو قل تبعية الحكومة للملك؛ ولعل الوقت غير مناسب لمناقشة ذلك، لذا، سنرجئ الحديث في هذا الشأن إلى فرصة أخرى.

حتى لا ندخل في تفاصيل أكثر، يمكن الجزم أن لرئيس الحكومة حق اقتراح أسماء للاستوزار في جميع القطاعات، بما فيها وزارات السيادة المتعارف عليها في المغرب؛ لأن الحكومة تملك من الصلاحيات التي تسمح لها، كما ذكرنا أعلاه، للتداول في قضايا السياسة العامة وكذا المعاهدات والاتفاقيات الدولية؛ فضلا على ذلك، فإن الدستور لم يفرق بين الوزارات، ولا صنفها بين سيادية وعادية؛ وهذا لا ينفي أن للملك صلاحيات مخولة له حصرا، يمارسها بواسطة ظهائر.

وعلى سبيل الاختصار، نقول: إن الحديث عن الوزارات السيادية من طرف السياسيين والباحثين، وإقرارهم، بشكل غير مباشر، بعدم أحقية رئيس الحكومة المعين اقتراح أسماء شخصيات سياسية ذات انتماء حزبي، يؤخر تقدم المسلسل الديمقراطي، ويجعل مضامين الدستور مجمدة، ويشجع الرئيس المعين للتنازل عن صلاحياته، ويعرضه للانتقاد كما انتقد قبله عبد الإله بن كيران وسعد الدين العثماني، لأنهما لم يحافظا على مكانة مؤسسة الحكومة ذات الصلاحيات، ولو في حدها الأدنى؛ وإنما أصبحت الممارسة السياسية بالمغرب ضعيفة لا تتماشى مع متطلبات المجتمع، بل حتى مع ما يدعو إليه الملك في خطبه السامية؛ ذلك أن عدم اقتحام مجالات وقطاعات من قبل أحزاب سياسية، من خلال التنظير فيها واقتراح البدائل والحلول، مع الاكتفاء بمهمة المتفرج فقط، يؤيد موقف أصحاب الرأي الذي يصف الأحزاب بالضعف وعدم كفاءتها؛ بل يجوز قبول حتى وصفها بـ الدكاكين السياسية التي تتصارع على المناصب، دون التنافس على البرامج والرؤى السياسية، التي تناسب البلاد، وتخدم مصلحة العباد، دون الوقوع، طبعا، في صدام مع إمارة المؤمنين والملكية التي توارثها المغاربة.

وعليه، فإن فعل ممارسة السياسة يخضع لموازين القوى، سواء في المغرب أو غيره؛ مما يجعل الأحزاب السياسية كلما تقوت، من خلال رؤاها وبرامجها، فضلا عن مصداقية زعمائها، تراجعت المؤسسة الملكية عن التدخل في كل شأن؛ بل على العكس تماما، سنشهد محاولة المؤسسة الملكية التخلص من كثرة الأعباء التي تقع على عاتقها وتترك الفرصة للأحزاب السياسية، لتتفرغ هي لما يحافظ على وجودها ووجود المملكة؛ حتى إن تحقق هذا، صار كل طرف يحاول تحقيق التوازن ليحافظ على وجوده والدفاع عن رؤيته، كما يحث في البلدان المتقدمة ذات النظام الملكي؛ وبعدها، لن نسمع عن مصطلحات كثيرة ملئت الساحة المغربية، من قبيل: وزارات السيادة، الدولة العميقة، العفاريت والتماسيح، الخ.

اللهم ارزقنا المنطق السياسي السليم، ولا تحرمنا رؤية التنافس على البرامج والرؤى بدل التصارع على المناصب وتحقيق المطامع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *