منوعات

رغم أنه حقيقة لا مفر منها .. لماذا يخاف البشر من الموت؟

رغم سعي الإنسان مند القدم إلى الخلود، وبحث عن “إكسير الحياة” يمد في شباباه، ورغم أن اعتقاد ذلك الخلود لا يكون إلا من مجنون، فإن من اليقينيات الكبرى لدى أسوياء البشر وجود نهاية لحياتهم هي الموت.

ورغم أن هذه الحقيقة واقعيا لا تحتاج أدلة ولا براهين، لأن تجربة الحياة وما يتخللها من أحداث الوفيات تذكر الإنسان بشكل مستمر بهذا المصير المحتوم، إلا أن ذلك لم يمنع الأديان والفلاسفة من تأكيد ذلك، فيقول تعالى في القرآن الكريم” كل نفس ذائقة الموت”، وعبارة أرسطو المشهورة مثلا تقول “الإنسان كائن فان”، هي من الأمور الأولى التي نتعلمها في درس الفلسفة.

فالموت بالنسبة لكل شخص آت لا محالة، ورغم ذلك يخاف الناس من الموت! وهذه المفارقة قد تجد لها تفسيرات عدة، لعل أحدها أن لا أحد يعلم متى سيموت بالضبط؟ مما يصيب بعض الناس برهاب الخوف من الموت.

وخلاف الخوف الديني من الموت والذي يدفع إلى العمل الصالح، فذلك الرهاب قد يتحول إلى وسواس قهري يفرض سيطرته على الناس، فيتوقع أن يموت كل يوم أو حتى كل لحظة بسبب مفاجئ قد يكون حادثة سير، أو سكتة قلبية أو جلطة دماغية …

فلماذا استمر الخوف من الموت لدى البشر؟ ومتى يكون ذلك الخوف مرضيا؟

رهاب الفناء

ظل الموت، حسب أندبندنت عربية، يشغل البشر أفراداً وجماعات، يفكرون حوله وفي الطقوس التي ترافقه وتؤثر أيما تأثير في الحياة التي يعيشونها، حتى وصل فرويد في تحليلاته وتحديداً في آخر كتبه “مستقبل وهم” إلى أن فكرة الموت كانت ذات تأثير كبير في الحياة نفسها، فقد أسست لقيام الحضارات وكرست التضامن الإنساني الجماعي في مواجهته، وأسست لثقافات هذه الحضارات وأديانها وآلهتها وأنواع وأشكال الحياة بعد الموت لديها

والخوف من الموت، حسب نفس المصدر، ليس رهاباً جماعياً فحسب، بل يمكن أن يكون قلقاً وجودياً يعانيه جميع الناس لكن بشكل كامن، فالشعور بالقلق من دون سبب محدد قد يكون وراءه التفكير الكامن بالموت. ويعتبر فرويد أن كل الأفكار المتعلقة بالحياة اللاحقة على الموت التي اعتنقها البشر وليدة شعور الكائن البشري بمركزيته في الكون، وبفرادته وكبريائه ككائن مفكر وعاطفي يتعلم من التجارب، ما دفعه إلى رفض فكرة الفناء التام …

وإضافة إلى تعاليم الأديان، فقد انشغل الإنسان بحياة ما بعد الموت.

وتختلف طرق الحياة بعد الموت بين الديانات والثقافات والشعوب والتقاليد، وقد تناولها بناة الحضارات القديمة، فقدم البابليون وكذلك المصريون القدماء تفاصيل عن كيفية الانتقال من عالم الموتى إلى عالم الحياة الأخرى، وكذلك كان لدى قبائل الأمازون وشعوب أميركا االلاتينية كالمايا والأزتيك تصوراتهم حول الانتقال نحو حياة البقاء، وفي الهند والصين حيث الديانات المرتبطة بالطبيعة يمكن العودة من الموت في شكل كائن حي لمرات عدة في حيوات بعد أخرى.

الولع بالخلود

في ثقافات العالم المختلفة يوجد في الملاحم المعروفة مثل “الألياذة” و”الأوديسة” و”جلجامش” ما يفيد طلب الأبدية والخلود وفعل المستحيل للحصول عليهما في الأرض قبل الحياة الآخرة، ففي ملحمة “جلجامش” الأشورية أراد بطلها، وهو نصف إله ونصف آدمي كغيره من أبطال تلك الأزمنة كهرقل، الخلود والعيش إلى الأبد، وحين مات مرافقه وصديقه أنكيدو في رحلته المستحيلة بحثاً عن الخلود، أنشد قائلاً “إن النازلة التي حلت بصاحبي قضت مضجعي، آه، لقد غدا صاحبي الذي أحببت تراباً، وأنا سأضطجع مثله فلا أقوم أبد الآبدين. فيا صاحبة الحانة، وأنا أنظر في وجهك. أيكون في وسعي ألا أرى الموت الذي أخشاه وأرهبه؟”

أما صاحبة الحانة فقالت “إلى أين تسعى يا جلجامش؟ إن الحياة التي تبغي لن تجدها. فحينما خلقت الآلهة البشر قدرت عليهم الموت واستأثرت هي بالحياة. أما أنت يا جلجامش فليكن كرشك مليئاً على الدوام. كن فرحاً ومبتهجاً نهار مساء”.

لكي نشرح ما هو سبب الخوف من الموت في زمننا الحالي، لا بد من عرض آخر الأرقام حول أعداد الموتى في السنة الماضية، إذ توفي 65 مليون شخص حول العالم، أي بمعدل 178 ألف شخص كل يوم، و7425 كل ساعة، و120 كل دقيقة. ومن بين هؤلاء يموت 800 ألف شخص بسبب الانتحار، وهو ضعف عدد القتلى جراء الجرائم.

في مقال بعنوان “هل يجب أن نخاف من الموت؟” كتب نيل بيرتون، وهو طبيب نفسي وفيلسوف وكاتب يعيش ويدرس في أكسفورد ومؤلف كتابي “The Meaning of Madness” (معنى الجنون) و”Psychology of Self-Decision” (علم نفس القرار الذاتي) وغيرهما، أنه “كلما طالت حياة المرء زادت حياته “المتراكمة”، وفي المقابل، لا يمكن أن يتراكم الموت، لذلك إذا كان شراً فهذا ليس لأنه يحرمنا من الحياة لفترة معينة، بل يحرمنا منها إلى الأبد”.

لكن السؤال الذي يجب طرحه هنا برأي الكاتب هو “لماذا يريد الناس معرفة الفترة التي تلي الموت بينما لا يسألون عن الفترة التي سبقت ولادتهم؟”. وأما الإجابة فهي أنه على الرغم من أن المرء لم يكن موجوداً في الفترة التي سبقت ولادته ولا في الوقت الذي يلي وفاته، فإن ما بعد الموت هو الوقت الذي يحرم فيه الإنسان من حياة جربها وعاشها، لهذا نرى موت شاب في مقتبل العمر حدثاً جللاً ومثيراً للحزن بشدة، وموت عجوز مسن طبيعياً نتقبله برحابة صدر.

الباحثة في علم النفس شيلا كوهلر من جامعة “برينستون” صاحبة كتاب “أحلام من أجل فرويد”، كتبت حول السبب الذي يجعل الموت الذي نلمسه في كل مكان موضوعاً محظوراً تناوله بشكل صريح وعام، ففي مقالتها بعنوان “لماذا لا يزال الموت من التابوهات؟” تقول إنه “على الرغم من وجود الموت في كل مكان حولنا، لكننا نحافظ على موتانا مختبئين بعناية عن الأنظار، فبعد الوفاة توضع الجثة بعيداً من الأعين في البرادات وفي التوابيت ثم تحت الأرض أو في الأفران، وكأننا نخفي تجليات الموت عن الأنظار قدر ما نستطيع”

وهي تؤيد موقف المحلل النفسي النمساوي أوتو رانك صاحب كتاب “علم النفس والروح”، وسكرتير “جمعية التحليل النفسي” في فيينا التي أسسها فرويد، وكان يوافقه الرأي بأن فكرة خلود الروح نشأت رداً على خوفنا الكامن من الموت، … لكنه يضيف إلى أستاذه أن اللاوعي يمنع الأفراد من التفكير في الموت، وقد أوجد المجتمع آليات وأشكالاً من التكيف الثقافي تهدف إلى منع الناس من إدراك طبيعتهم الفانية ككائنات، بالتالي من إدراك فنائهم عبر إعلاء ذواتهم عن سائر الكائنات وتقسيمها إلى مادة وروح أو جسد ونفس.

متى نقهر الموت؟

لكن الفيلسوف الألماني هايدجر أراد الانقلاب على هذه الفكرة عبر وجوب اعتراف البشر بكونهم كائنات زمنية تنتهي بالموت من أجل فهم أعمق للحياة والاستفادة منها بأفضل الأشكال الممكنة.

في دراسة اجتماعية حديثة حول مفاهيم الموت أجراها علماء الاجتماع من جامعة ميونيخ بقيادة إيرميلد ساكي، تم تحليل 150 عينة، وكانت الإجابات واضحة حول مفهوم الموت، فالمتدينون يعتبرون أن الخالق هو الذي يحدد الحياة والموت، وأن هناك حياة بعد فناء الجسد، أما الآخرون فيرون أنه لا شيء يتبع الموت البيولوجي، ويتمسك المتدينون والملحدون على السواء بموقف ثابت يمنع مزيداً من النقاش حول هذه المسألة.

أما الموقف الثالث فهو ما أبداه أصحاب الأسئلة، أي الذين يريدون البحث في الموضوع ومحاولة إيجاد إجابات، ويواجهون فناءهم علانية عبر التساؤل والبحث النشط حول الفكرة في مختلف الثقافات والأديان والفولكلور.

لكن الخوف من الموت قد يتحول إلى قلق مرضي، حين لا يستطيع الشخص التوقف عن التفكير في موته أو موت أحبائه، لذا ترى شون شينوك في مقالها “كيف نواجه القلق من الموت؟” أن أول الأمور تكمن في الاعتراف بأن لا أحد يستطيع التحكم في الموت، وما يمكن لأي شخص التحكم فيه هو أفكاره وأفعاله القلقة حول الموضوع.

على سبيل المثال، حين نعرف أن شخصاً مات في حادثة سيارة، نسأل على الفور عن الـ”خطأ” الذي قام به، هل كان يقود بسرعة كبيرة؟ هل وضع حزام الأمان؟ هل كان يكتب الرسائل النصية أثناء القيادة؟ هذه الأسئلة الغريزية التلقائية هي وسيلة لنشعر بالسيطرة أكثر من المتوفى، وكأن ما أصابه لن يصيبنا ما دمنا نتبع تعليمات السلامة.

ترى الباحثة إليسا كوفمان وهي أخصائية في العلوم النفسية بجامعة “ميامي” الأميركية ومتخصصة في علاج اضطراب الوسواس القهري، أن السؤال الأبدي حول السيطرة على الموت تكمن إجابته من خلال الاستمتاع بالحياة وعيشها على أكمل وجه، فقد نلجأ إلى القيام بمغامرات تقربنا من الموت كالهبوط بالمظلة أو غير ذلك مع العلم المسبق بأنها لا تؤدي إلى القتل، لكن مثل هذه المغامرات يمكنها التحفيف من عبء التفكير في الفناء.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *