أخبار الساعة، منوعات

وهم الإحاطة بكل شيء.. لماذا تنتشر أوهام المعرفة اليوم أكثر من أي وقت مضى؟  

هذا عصر “أعرف كل شيء”! فخلاف ما كان سائدا بين الفلاسفة والعلماء سابقا من التواضع والاعتراف بالنقص، وختم المومنين منهم كلامهم بالقول “والله أعلم”، نجد اليوم انتشارا واسعا لشعور الناس بأنهم أصبحوا يعرفون كل شيء.

فمن الظواهر السيكولوجية والاجتماعية التي فرضت نفسها بشكل مثير في مواقع التواصل الاجتماعي بالخصوص، وأثارت اهتمام العلماء والباحثين، انتشار ظاهرة الإحساس والادعاء بـ”معرفة كل شيء”.

ففتْح المجال أمام الجميع بدون أي شرط ولا استثناء للتعبير وإبداء الرأي والنقد والتعليق، ووجود محركات بحث تمكن الأشخاص من مختلف المعلومات التي يحتاجونها وفي وقت سريع، جعل الغالبية العظمى تشعر أنها تعرف في كل شيء.

وساهم توفر المعلومة وسهولة الوصول إليها وفتح المجال للتعبير بكل حرية في إعطاء الانطباع للبعض أنهم أصبحوا يعرفون كل شيء، وقد تجد الواحد منهم يتحدث في كل شيء من علوم الفضاء إلى علوم البيولوجية الدقيقة. وهذا ما يسميه علماء الاجتماع والنفس المعاصرين بـ”وهم المعرفة”، أي الثقة التامة بأن معلوماتنا تشمل كل شيء تقريباً، حسب اندبندنت عربية.

وحسب نفس المصدر، يقدم العلماء الجدد المعاصرون دلائل حول ارتباط هذا الوهم بالكم الهائل والوافر والمتنوع والمتخصص من المعلومات الموجود على شبكة الأنترنيت في أي لحظة نطلبها، وقد لاحظ الباحثون عبر متابعة مواقع التواصل والصفحات الخاصة التي يقدم أصحابها آراءهم أو معلوماتهم حول موضوع معين انتشار ظاهرة “وهم المعرفة” بشكل كبير بين مستخدمي الإنترنت عموماً، وأصحاب الرأي والمتابعين والمؤثرين منهم الذين يشعرون بسلطة معرفية هائلة خصوصاً حين تصبح معلوماتهم منتشرة ومتداولة ومقبولة على الرغم من خطأها.

أنت تعرف أقل مما تعتقد

تحت عنوان “ما الذي يجعل الناس يبالغون في الثقة بمعرفتهم؟” كتب ديفيد روبسون في “بي بي سي” أغسطس (آب) 2022، أن “من السهل أن تعتقد أنك تمتلك المعرفة الكلية، لكن بالتأكيد أنت تعرف أقل مما تعتقد”.

على سبيل المثال، لو طرحنا مجموعة من الأسئلة حول كيف تتجمع الغيوم ويتساقط المطر؟ أو كيف يحدث تعاقب الفصول في السنة؟ أو كيف يعمل محرك السيارة؟ أو ما هي شبكة الإنترنت؟ فإن أي قارئ سيعتقد أنه يعرف الإجابة عن هذه الأسئلة، ولكن حين نطلب منه أن يعطي إجابات تفصيلية فإنه سيقع في الحيرة التامة عموماً، كما حدث في معظم الاستطلاعات التي أجريت في هذا الصدد.

هذا ما يعرف باسم “وهم المعرفة” لأننا جميعاً بتنا نشعر بمعرفتنا للمعلومات العامة، وبعلمنا كيفية حدوث الظواهر الطبيعية من حولنا، وبأننا أصبحنا أكثر فهماً لمحيطنا ولما يجري في العالم سياسياً واقتصادياً وبيئياً.

والمعلومات العامة باتت في المتناول بسهولة ويسر بعد عقود من تطور التعليم وارتفاع أعداد المتعلمين حول العالم قبل وصول الإنترنت و”العولمة” التي تعني انفتاح المجتمعات البشرية والدول والأنظمة على بعضها عبر إلغاء الحدود الطبيعية بواسطة الاتصال عبر شبكة الإنترنت والإعلام والميديا والتسويق والإعلان. المعلومات في كل مكان، وهذا ما يزيد ثقتنا بما نعرفه.

لكن هذا الوهم بالمعرفة سيضعنا جميعاً في مواقف محرجة تكسر ادعاءنا أو كبرياءنا، كما حين يسألنا طفل صغير لماذا يلاحقنا القمر أينما ذهبنا على الرغم من أننا نبتعد عنه بالسيارة؟ وقد يفاجئنا هذا الوهم بالمعرفة الكلية في الحياة العملية حين نتصدى للإجابة أمام جمع أو حين نتولى عملاً أكبر من قدراتنا.

ظهر مصطلح “وهم المعرفة” إلى النور للمرة الأولى عام 2002 بعد سلسلة من الدراسات قام بها ليونيد روزنبليت وفرانك كيل في جامعة “ييل”، وقدم الباحثان مجموعة من الأسئلة حول الظواهر الطبيعية أو مسائل بسيطة من الحياة، وطلبوا من المشاركين قبل الإجابة عنها أن يحددوا مدى معرفتهم بالإجابة، وكانت النتائج تفيد أن جميع المشاركين متفائلون بقدرتهم على كتابة مقاطع حول هذه المواضيع، لكن حين لجأوا إلى الإجابة الفعلية لم يتمكن أغلبهم من كتابة أكثر من جملة واحدة، وأصيب جميعهم بالذهول من ضآلة معرفتهم.

رأى الباحثان في نتيجة هذه التجارب العملية أن الثقة المفرطة لدى المشاركين سببها قدرتنا على بناء تصور أو مشهد للمفاهيم أو المواضيع التي نسأل عنها كأننا نتخيلها، وأوهام المعرفة تصيب مجالات وفروعاً علمية وأنواعاً من الأعمال المختلفة.

لاحظ ماثيو فيشر، وهو أستاذ مساعد في التسويق بجامعات “تكساس”، أن عدداً من خريجي الجامعات يبالغون إلى حد كبير في فهمهم لتخصصهم الجامعي على أساس أن الحياة العملية بعد التخرج أضافت إلى ما راكموه خلال الدراسة، على الرغم من أن التجارب مع هؤلاء الخريجين أصابتهم هم أنفسهم بالصدمة للفارق بين ما يعتقدون أنهم يعرفونه وما يعرفونه بالفعل.

ورد الأستاذ الجامعي الأمر إلى مبالغتنا في تقدير حجم ما يمكن أن نتعلمه من خلال مراقبة الآخرين، وهذا ما يسمى “وهم اكتساب المهارات”، وإذا أضفنا إليها وجود موارد هائلة من المعلومات على الإنترنت في متناول أيادينا، فإن ثقتنا بما نعرفه ستصبح مفرطة بالتأكيد، “لأننا نخلط بين ثروة المعرفة على الإنترنت وذكرياتنا”.

لتأكيد هذه الفرضية طلب فيشر من مجموعة من المشاركين الإجابة عن أسئلة بمساعدة محرك بحث، بينما طلب من مجموعة أخرى تقييم فهمهم الخاص للموضوع من دون مساعدة، وبالتأكيد كانت النتيجة أن من استخدموا محرك البحث كانوا أكثر ثقة في إكمال التجربة، وأكثر تحديداً في الإجابات، وهذا ما يعني أن وجود محرك البحث بين أيدينا ليجيبنا عن أي سؤال قد نسأله يمنحنا سلفاً شعوراً بالأمان نحو الأسئلة، وحين استخدامه يزيد شعورنا بأننا أصحاب معرفة مطلقة، وكأن مركز معلوماتنا الشخصي والمفترض بات هو نفسه محرك البحث.

هل جربنا ما نعرفه؟

وهم المعرفة يمكن تطبيقه على المشاهدة السريعة أو “الملاحظة السلبية” بشكل مدهش، كأن يعتقد الشخص أنه بمجرد مشاهدة كيفية قيادة سيارة “فورمولا” وإن عبر الفيديو، فإنما يعني هذا أنه يمكنه قيادتها في الواقع، وهذا ما يعزز من ثقة الناس في قدراتهم على أداء مهمات الحياة المعقدة خصوصاً مع انتشار ألعاب الفيديو القريبة من الواقع، التي تضم باقة واسعة من المهمات التي يمكن إتقانها جلوساً أمام الشاشة.

لتأكيد هذه الفكرة قامت كايلا جوردان وهي طالبة الدكتوراه في جامعة “وايكاتو بنيوزيلندا” بالطلب من المشاركين أن يتخيلوا أنهم على متن طائرة ركاب صغيرة، وبسبب حال طارئة يعجز الطيار عن الهبوط و”تبقى أنت الشخص الوحيد للهبوط بالطائرة”، ثم عرضت على نصفهم مقطع فيديو مدته أربع دقائق لطيار يهبط بطائرة، بينما لم يشاهد الباقون المقطع ولم يظهر الفيلم ما كانت تفعله يدا الطيار أثناء العملية، بالتالي ليس له أي هدف تعليمي، ومع ذلك أصبح عدد من الأشخاص الذين شاهدوا المقطع أكثر تفاؤلاً وأكثر ثقة بنحو 30 في المئة بقدرتهم الشخصية على الهبوط بالطائرة مقارنة مع الأشخاص الذين لم يشاهدوا الفيديو.

أما الحل لعدم الوقوع في هذا الفخ بحسب فيشر فهو التوقف لفترة وجيزة عن استخدام “العكازات” التكنولوجية، والتحقق من كم المساعدة الذي نطلبه من شبكة الإنترنت على أن نتوقف لفترة وجيزة في محاولة تذكر حقيقة ما نعرفه قبل اللجوء إلى البحث على الإنترنت.

الهدف من التخلص من مشكلة “وهم المعرفة” هو تحقيق مزيد من التواضع وهو أحد “الفضائل الفكرية” الكلاسيكية التي يحتفل بها الفلاسفة، والتواضع ليس فضيلة أخلاقية فقط بل وعملية أيضاً، فهو يسهم في تحقيق العدالة المعرفية بين الأقران في الجامعات والوظائف، حيث يحصل كل شخص على الموقع الذي يستحق بمعرفته لا بوهم معرفته، والتواضع المعرفي يسهم أيضاً في الحث على البحث والتفكير وحسن الاختيار من بين المعلومات المقدمة لنا عبر شبكة الإنترنت، فيؤدي إلى تنقية الشبكة من المعلومات الخاطئة أو المضللة أو المفبركة، ويسهم في تلاقح الأفكار بين جماعة من “المتواضعين معرفياً” الذين يبتغون نشر المعرفة وتبادلها بين العموم لا حصرها على شكل وهم فردي خاص يسقط عند أول امتحان عملي لهذه المعرفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *