وجهة نظر

إلى أروع كلمة قيلت في عالم الحب “أمي”

لئن قالوا الحياة : أقول أمي
لئن قالوا الحب :أقول أمي
لئن قالوا البيت :اقول “حيث تكون أمي”
لئن قالوا التضحية :اقول ” هي على الأغلب صورة امي”
وبكلمة، لا أحد يشبهها، ويكفيني شرفا انها “وصية الرحمان لي ”
كثيرا ما حدثتني نفسي اخي القارئ بالجهر عن دواخلي ووصف مقدار حبي لأمي… وان اخصها بمقال او خاطرة اوقعهما بامتناني الخاص…. لكني كنت-كمن يخشى – ان تذيع نقطة ضعفي بين الناس، وأنا الحريصة على تسييج دواخلي وصون عواطفي لأنها شأن يهمني لوحدي، كتبت عليها بحبر ثمين
” خاص جدا” ….
وكنت كمن يتوجس من قلمي المشاكس، فلا يسعفني ان أخط الكلمات التي توفي وتكفي قدر أمي عندي…. فاضطر ربما -مرغمة- لأمتح من قاموس مكرور وبارد… والحال ان الجرأة في وصف الدواخل – كما عاينتها في قراءاتي المختلفة لأدباءنا وشعراءنا العرب تحتاج لملكة تعبير غنية، وعلو كعب في سكب الكثير من حمى الوجد والحب والألم على الالفاظ، لصناعة معاني رائقة و راقية.
فأين انا من هؤلاء الأدباء؟!
طبعا، تصغر نفسي عن المقارنة… لكنها تكبر عن مخالفة ” جرأتي على الكتابة لأمي هذه المرة” وكاني به دين علي سداده، وكأني به واجب تهاونت فيه، فصار يلاحقني….
وإن يكن، ثمانية وعشرون حرفا، بل الأبجدية بأكملها قاصرة وعاجزة عن رد جميل أمي، ووصف حبي لأمي…..
وبكلمة، يتملكني إحساس مترنح بين القدرة على “هذه المغامرة “وبين التخوف منها….. فعذرا أيها القارئ ،هكذا انا مترنحة كلما تعلق الأمر ب “مشاعري” نحو أحبتي، فبالأحرى نحو امرأة حملتني في أحشائها تسعة أشهر، وسهرت الليالي تتعهدني بالرعاية وتحيطني بالحب وانا ذات البنية الضعيفة في الصغر، و المزاجية العاصفة حد الدلال في ما بعدها من مراحل العمر….
امرإة ، أجبرتها الحياة لتكون لستة أبناء أما وأبا…. فترعاهم حد الاكتفاء…
إنها لعمري،كمن كانت تسكب مشاعرها الغالية دفعة واحدة كي نرتوي، فنتعفف عن النظر لما في أيدي الناس… و نستغني عن الاستزادة من متطلبات الحياة… فلا نتوخاها ولا نطلبها ولو كانت من المقربين.
ومالي لا أثنى عل أمي اليوم وغدا؟! فهل هناك إنسان على وجه هذه الأرض، يجاري قدرها عندي؟
لا والله…، صحيح لكل أحبتي موقع خاص عندي، إلا أن موقع أمي الأعلى والأجمل… “فعذرا أحبتي”… ولولا ان الوقت لكل حبر غلاب، ولولا أنني أحتسب وإياها أجر الكثير من محطات الخير والنبل فيها لله وحده، لسردت كثيرا من مواقف النبل والإيثار والرعاية التي حازت فيها أمي قصب السبق معنا نحن ابناؤها ومع الكثيرين ممن طرقوا بابها من الأقارب وغيرهم….
و بالجملة، أمي الاستثناء الكبير حين أوشك ان اجزم _في حالات تعثر خاصة – بأن كل ما في الحياة سيء، وبأن الحسد والغدر طبع غالب في من حولي….
أمي الاستثناء الكبير، ومستودع المعاني الجميلة، وطوق نجاتي من منعرجات الحياة… حين أوشك ان أنزوي هربا من مستنقعات الحياة المقيتة :”القيل والقال” و “الزبونية والمحسوبية” و “الحكرة والتثبيط”….
ومالي لا أثنى على امي؟!وقد كانت – حتى عهد قريب- مسعفتي في مرضي “مرض الجسد ومرض الجوارح” وأستاذتي التي رسخت عقيدة التوحيد في أعماقي بالفعل لا بالقول…. كما كانت مربيتي التي علمتني ان الأخلاق والقيم والمبادئ كنز لا مقايضة فيه… وبالتبع، علمتني أن أعامل الناس بأخلاقي لا بأخلاقهم…. وأن أترفع عن الكثير حين لا يستحق هذا الكثير النزول عنده…
بل لعلي لا أذيع سرا إذا اعترفت بان كل ما أنا عليه ، وكل ما أريد أن أكونه، مدينة به لامرأة أمية، لم تقرأ ولم تكتب، تلك هي أمي ولا فخر!
قلت، كانت حتى عهد قريب… أما اليوم، فقد تسلل المرض إليها في غفلة منا إخوتي وانا – فصار وجه الغالية ذابلا، وصار تركيزها ضعيفا، وضاق خاطرها الرحب، وتغيرت طباعها الهادئة الملفوفة بحكمة “العقلاء”… فصارت اكثر مزاجية، وأسرع غضبا… وكأني بالأفكار المنغصة قد تزاحمت عليها، حتى وجل فكرها….
تبا لك أيها المرض!
لقد زحفت (تاء منصوبة) على وسادتي الناعمة “حضن امي”، وتسللت إلى أكبر سند لي بعد رب العالمين، وتطاولت على كاتمة أسراري ورفيقتي وبؤبؤ عيني… فإلى من أبوح له بما يفرحني وبما ينغصني… والصمت يرهقني؟!
إلى من أخطو وخافقي يتراقص شوقا كي أرتمي في حضنه غير بهية الفؤاد؟!
رباه!
لا تواخذني بذنب “سب الدهر” وغضبي لحال امي، فالألم يفوق وصفي، وقلمي يختنق في كفي، وحزني كبير لا يحيط به حرفي….

وفي هذا السياق، إن كنت لأنسى فلن أنسى أن أتوجه لأصحاب القيل والقال والشعارات الجوفاء ، وأغتنمها كلمة لله ذر من قالها : “عندنا تفتحوا أفواهكم للحكم على الأم، عضوا ألسنتكم أولا… فالحمل مؤلم ، والولادة مؤلمة، و الرضاعة مؤلمة، وسهر الليالي في التربية مؤلم ومتعب…….” فتبا لكم ولكل من يبخس أشياء أمه ! فليس في هذه الحياة امرأة واحدة تهب كل حياتها وكل حنانها دون أن تسأل عن مقابل إلا الأم…
وأقول لأهل العقوق والعياذ بالله: “كل معصية تؤخر عقوبتها بمشيئة الله إلا العقوق، فإنه يعجل به في الدنيا، وكما تدين تدان… ”
وعليه ،كل الديون تؤدى إلا دين الأم… فطوبى لمن كان من أهل البر بوالديه، وسعدى لمن كسب رهان رضاهما في زمن العقوق والتردي والاهتزاز القيمي….

وبالجملة ، ربي لقد فرغت حياتي من الشغف دفعة واحدة منذ مرضت أمي، ومنذ أن وقع الموت موعدا مع عائلتي…. فأخذ كثيرا من أحبتي.. ولم يعد يهمني بعدهم جميعا ،من تفاصيل الأعياد والمناسبات السارة سوى اطمئنان أمي وراحتها ، فهلا هونت عليها الألم يارب! وأزلت من جسدها السقم، يا من أنت على كل شيء قدير!
ربي ، لقد أودعتك أمي ، ووديعتك ولا شك غالية !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *