وجهة نظر

الإسلامي السائل

لو قُدر لـ”زيغموند باومان” أن يكون مسلما، أو مطلعا على حال المسلمين، هذه السنين، لألف عن “الإسلام السائل” وكذلك سيطرق موضوع “المسلم السائل”، لكثرة اصطدامه بالحالة المائعة التي يقف عليها المسلمون اليوم، والتي أصابت فئة ممن كانوا يسمون أبناء “الصحوة” الإسلامية، أو “الإسلاميون”.

قبل إخضاع الحالة الإسلامية للنموذج التفسيري لباومان، نتساءل عن مفهوم السيولة، ما معناه؟ لنقف على أن الفيلسوف يتحدث عن “انتقالات من الجماعات المرجعية المحددة سلفا، من المسلمات المعلومة والبداهة، إلى جماعات محتاجة إلى برهان “خارجي” على مقولاتها، و”خاضعة للمقارنات الكونية المفتوحة على اللايقين”.

كما يصف باومان حالة الجماعات المرجعية، بكونها “بدلا من أن تسبقَ هذه النماذجُ (الجماعات المرجعية) سياسةَ الحياة وتؤطر مسارها المستقبلي، فإنها تتْبعها وتَصدُر عنها، حتى تتشكل، ثم تعيد التشكل من جديد”، وهكذا تدخل مسارات التشكل وإعادة التشكل إلى لا ما لا نهاية، فالسيولة “هي الانقطاع والتفكك، هي التغيرات المتجددة على الدوام”، هي تغيير الثبات، وثبات التغييرات، “فنحن لم نعد نُطِقْ أي شيء يدوم”، لقد “أصبح الثبات رديفا للملل”.

لن يعدم باومان في كتابه ـ المفترض ـ أدلة وشواهد على ما يبدو أنها تجاوزت “الظاهرة” التي اخترقت دائرة العاملين للإسلام، وانتقلت من الحواشي والهوامش إلى قلب صناع الفعل الإسلامي، في مختلف تمظهراته التنظيمية ومناشطه الحركية.

ونقدم هنا حالتين؛ نقرأ من خلالهما تقدير باومان لتعامل الإسلاميين مع المرجعية الإسلامية في علاقتها بالعالم، الإسلاميون هنا كجماعة مرجعية، والعالم القائم على المقارنات الكونية المفتوحة على اللايقين.

الأولى؛ الهبة الاحتجاجية/البرائية لأبناء بل وقادة العدالة والتنمية والتوحيد والإصلاح، من بيان الحزب حول علاقة الزلزال الذي ضرب المغرب بالمعاصي والذنوب والمخالفات، والتي بلغت حد خروج بعض قادة الحزب الحاليين، في تصريحات لا تحمل اسما، تسجل فيها أن فقرة الزلزال هي “موقف الأمين العام وحده”، و”لا أحد يشترك معه هذه القناعة!”.

لم يكن الأمر مجرد احتجاج على انفراد بنكيران بالقرار، ولا حتى على لغة بنكيران التي خرجت بها فقرة الزلزال والعقاب، بل إن الرفض كان لمنطق بنكيران كله، للمنطق الذي يعتبر “الغيب فاعلا في عالم الشهادة ومؤثرا فيه”، وهذا عين التحول “من المسلمات المعلومة والبداهة”، إلى الخضوع “للمقارنات الكونية المفتوحة على اللايقين”.

الثانية؛ غياب موقف مما يطرح بخصوص تعديل مدونة الأسرة، فـ”الحزب” لم يصدر موقفا، و”الحركة” خصصت أربعة أسطر في بلاغها الأخير، أعربت فيها عن استعدادها للمشاركة في مناقشة التعديلات، وقبلها كان “منتدى الزهراء” قد بشر بكل شيء في الحديث تعديل المدونة، بينما وضعت “نساء العدالة والتنمية” مسافة حذرة مع المراجعة والتعديل.

ورغم تفاعل الهيئات الثلاثة (الحركة + منتدى الزهراء + نساء الحزب) من خلال بياناتها الأخيرة، فإنها لم تصدر “موقفا” تعبر من خلاله عن هويتها، انتمائها، اصطفافها، “لاءاتها”، معارضاتها، موافقاتها.. بل تعاملت وكأنها معفية من الموقف، الأهم عندها أن تشارك في النقاش حتى من دون أن يعرف الناس ما الفرق بينها وبين غيرها.

تغييب الموقف ليس نسيانا، بل هو قرار مفكر فيه ومدروس، السكوت ليس انتظارا، بل هو “صمت متحفز”، هو صمت نعم، لكنه فاعل حثيث باتجاه مراجعة/تراجع عن المواقف السابقة، وتبني مواقف جديدة، ولأنها قد تكون صادمة ومحرقة، فإن أحسن وسيلة لتمرير تغيير المواقف هي الصمت، الصمت المليء بالكلمات والأفعال (في السر)، الصمت “المفتوح على اللايقين”.

إن باومان لو قُدرَ له التوقف عند هذين المثالين، سيقضي بمنتهى الهدوء والحكمة على الحالة الإسلامية المشاركة اليوم، بكونها حالة “إسلامية سائلة”، وأن الإسلامي المشارك اليوم “إسلامي سائل”، بلا طعم ولا لون ولا رائحة، مسلم رضي بـ”السيولة صلابة وحيدة، واللايقين يقينا وحيدا!”، وبالانتظار جوابا على الأسئلة الكبرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *