منوعات

بويخف يكتب عن الانتخابات: رهان عدم التراجع

يمكن التأكيد على أن الرهان السياسي الكبير لانتخابات السابع من أكتوبر 2016 يمكن تلخيص حده الأدنى في “عدم التراجع عن مستوى الدَّمقرطة الذي سجل خلال انتخابات 2011”. فالمغرب سجل في تلك الانتخابات منجزات سياسية مهمة لها قيمتها الحيوية في علاقتها بالخيار الديمقراطي بصفته خيارا استراتيجيا حيث اعتبره دستور 2011 من الثوابت الجامعة التي تستند عليها الأمة المغربية في حياتها العامة. وخطت أول انتخابات تشريعية في ظله خطوات مهمة في مساره.

ولعل أهم المنجزات السياسية التي تمت في سبيل دَمقرطة الانتخابات هي المناخ السياسي العام الذي جرت فيه الانتخابات التشريعية لسنة 2011، والذي شهد الجميع بكونه مناخا ديمقراطيا صحيا بشكل مشجع، سواء فيما يتعلق بتدبير الادارة الترابية لذلك الاستحقاق التاريخي، أو فيما يتعلق بالخطاب السياسي لمختلف الفاعلين الذي أطر تلك الانتخابات، أو تعلق بالدور الذي لعبه الإعلام عموما في مساعدة المواطنين على الاختيار، أو تعلق بشبكة الوسائل التي استعملتها الأحزاب لاستمالة الناخبين.

وإذا كانت الرسالة السياسية الأساسية للمناخ السياسي الذي تمت فيه أول انتخابات تشريعية نظمت في ظل دستور المملكة الجديد هي تأكيدها الإرادة السياسية في الإصلاح السياسي والالتزام بالخيار الديمقراطي، فإن ما ينتظره الرأي العام الوطني ومختلف المراقبين والملاحظين من ثاني انتخابات تشريعية تتم في ظل ذلك الدستور هو أن تبرهن عمليا وبشكل أقوى على أن تلك الإرادة السياسية قائمة ومستمرة. فهل تسير الأمور في ذلك الاتجاه؟

تبدأ المؤشرات ذات العلاقة المباشرة بالمسلسل الانتخابي من أول انتخابات جماعية في ظل الدستور الجديد وهي انتخابات الرابع من شتنبر 2015، والتي كانت محطة دالة كان ينبغي أن تعطي رسائل قوية عن استمرار الإرادة السياسية في دمقرطة الانتخابات المعبر عنها في 2011. لكنها أكدت بالعكس أن جودة المناخ السياسي الذي أحاط بالعملية الانتخابية في كل مستوياتها قد تراجعت، وأن الكثير من الممارسات والسياسات الفاسدة قد لوثته. ففي هذه الانتخابات ظهرت مؤشرات مقلقة ترسم معالم التراجع الدرامي المسجل.

فقد تابع الرأي العام كيف عادت أنواع من الخروقات الخطيرة التي تنتمي إلى عهود سابقة عن الدستور الجديد. سواء تعلق الأمر بعودة المال الحرام، والذي تم ضبطه بشكل مؤلم في أوساط الناخبين الكبار، أو بعودة التحكم، والذي سجل على مستوى الخريطة النهائية لتلك الانتخابات والتي لم تعكس الأسس الطبيعية التي أفرزتها صناديق الاقتراع. أو باختلالات في التدبير من طرف الوزارة الوصية كان أكثرها فجاجة تأخير الإعلان عن النتائج التفصيلية للانتخابات لقرابة ثمانية أشهر، مما أضر بمصداقيتها. كما سجلت انحرافات خطيرة في الأدوار التي لعبتها بعض وسائل الإعلام التي تدور في فلك السلطوية، والتي تجاوزت وظيفتها الإعلامية لتصبح أداة سياسية تنشر الخراب، وتسجل مستوى مخيفا من اعتماد الكذب والافتراء ونشر الشائعات وغيرها ذلك.

الرسائل الصادمة التي خلفتها محطة انتخابات 2015 ستتعزز بمسلسل من الممارسات الملوثة للمناخ السياسي الذي يحيط الانتخابات التشريعية الجارية. والمشترك بين تلك الممارسات يدور حول أمرين، تعزيز حظوظ حزب التحكم ومحاصرة غريمه حزب المصباح. فالإعلام السلطوي سجل انزلاقات خطيرة غير مسبوقة ضدا على القانون وضدا على أخلاقيات المهنة وقواعدها، حيث تمت استباحة الحياة الخاصة لخصوم السلطوية بشكل فج لا يشرف المغرب مطلقا.

كما سجلت شكاوى من وجود ضغوطات على مرشحين، بعضها قيل إنه من مسؤولين في الإدارة الترابية، دفعت بعدد منهم إلى سحب ترشيحاتهم. كما سجلت شكاوى تفيد دخول أعوان السلطة في عدة مناطق في التعبئة لصالح حزب التحكم وضد حزب المصباح. وكان أكبر حدث صادم في هذا المسلسل المريض هو تنظيم مسيرة العار بالدار البيضاء يشتبه في تورط مسؤولين في الإدارة الترابية وحزب التحكم فيها، والتي تعتبر أكبر إساءة للوجه الديموقراطي المغربي، حيث تمت تعبئة آلاف من المواطنين بالخداع والكذب أياما قليلة عن بداية الحملة الانتخابية، لتوظيفهم في الاحتجاج في العاصمة الاقتصادية ضد الحكومة والحزب الذي يقودها.

وكان آخر ما سجل لحد اليوم في هذا المسلسل الماس بالخيار الديمقراطي قرارا غريبا لوزارة الداخلية برفع الإغلاق عن دور القرآن، ليفاجأ الجميع بفتحها مع انطلاق الحملة الانتخابية، مع ما سجله المراقبون من عمليات الاستقطاب الكثيف في أوساط السلفيين في المدينة الحمراء لصالح حزب التراكتور بعد أن تم الترويج لوعوده بحل ملف إغلاق تلك الدور، ومقابل هذا تم منع ترشح حماد القباج، أحد الوجوه السلفية المشهورة في المدينة، في لائحة حزب المصباح! مما يثير سؤال توقيت القرار الجديد لوزارة الداخلية في ملف لم تستجب فيه لكل المبادرات، الحقوقية والسياسية، ضاربة بعرض الحائط حكما قضائيا استئنافيا أيد قرار إغلاق إحدى تلك الدور! وبالطبع لا أحد يرفض إعادة فتح دور القرآن، لكن المنهجية المعتمدة والتوقيت الذي تم فيه يثير الشكوك حول علاقة ذلك بالانتخابات…

إن من بين أكبر أسباب العزوف عن الانتخابات، والذي يترجم في نسب مشاركة متوسطة، يرجع إلى مثل تلك الممارسات الفاسدة. والتي تجعل المواطنين يفقدون الثقة في العملية الانتخابية التي تصبح في اعتقادهم غير ذات جذوى، وغير ذات مصداقية، ويفقدون الثقة في المؤسسات التي تفرزها، مما يعتبر أكبر عوامل الهدم التي تهدد الخيار الديمقراطي في المغرب.

إن مسؤولية صيانة الخيار الديمقراطي يشترك فيها الجميع، مواطنين وأحزاب وإدارة وإعلام ومجتمع مدني. غير أن القسط الأكبر من جهود تلك الصيانة تقوم على عاتق وزارة الداخلية بالخصوص، بصفتها الوصية على الإدارة الترابية المشرفة على تنفيذ الإجراءات العملية والميدانية اليومية المتعلقة بالانتخابات، وذلك بالالتزام الصارم بالحياد الإيجابي، والعدل في التعامل مع الأحزاب، والصرامة في تطبيق القانون، والتزام المتعارف عليه في الديمقراطيات عبر العالم من معايير جودة التدبير.

إن الانتخابات التشريعية المقبلة تعتبر في تقدير المراقبين والمهتمين فرصة استثنائية لتدارك آثار مسلسل الأخطاء المشار إليه سابقا، لترميم وتدعيم تصالح المغاربة مع السياسة، وانخراطهم في تدبير الشأن العام، وثقتهم في العملية الانتخابية، وثقتهم في المؤسسات التي تنبثق فيها. وكلها عناصر تعتبر من أساسات الاستقرار السياسي وتقوية الخيار الديمقراطي، فهل نكون في الموعد؟