منتدى العمق

الثقافة الإسلامية بين إشكالية الكم و الكيف‎

الثقافات على اختلافها، بوصفها نظرية في السلوك الإنساني تميز المجتمعات، و تطبعها بنوع من الخصوصية و التفرد؛ في حاجة إلى أن توجه على مستويين لكي تكون ثقافة فعالة كما قال مالك بن نبي.
المستوى الأول: هو توجيهها إلى أمراض المجتمع مباشرة لتعالجها عبر اقصر طريق. فمن بين أزمات الثقافة و المثقفين، نجد عدم القدرة على التشخيص الدقيق للأمراض التي بحاجة إلى علاج داخل المجتمع أو الحضارة. و هذا التوجيه يوفر على الأمة الوقت، و الطاقة، عبر اختصار الطريق.
أما المستوى الثاني: فهو توجيه الثقافة بحيث تصبح حركة تطبع السلوك الإنساني داخل المجتمع؛ لا أن تظل حبيسة الكتب، فالهدف من وراء المعرفة بحسب التصور الإسلامي؛ هو أن تتحول إلى حركة لا أن توضع في ثلاجات الأذهان الباردة على تعبير سيد قطب!
و المحير في واقع حياة الأمة الإسلامية؛ هو كيف لم يستطع هذا الكم الهائل من التراث المعرفي في شتى المجالات(الفكرية، التربوية، النفسية، الاجتماعية، الفقهية، السياسية …إلخ) أن يغير من واقع الأمة المأسوف عليه شيئا؟ وقبل هذا التراث المعرفي، فإن الأمة الإسلامية هي أمة ربانية، صنعها كتاب أنزل من فوق سبع سماوات، و حضارة الإسلام كذلك، هي حضارة أنشأها الوحي و لم تكن وليدة ظروف تاريخية، و لا عوامل مرتبطة بالزمان و المكان. وإذا كان ذلك كذلك! فإن عوامل نشأتها، و ازدهارها، لمَّا تندثر بعد، إذ أن الله عز وجل تفكل بحفظ كتابه. فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الذي يحول بين هذه العوامل المتمثلة أساسا في الوحي بشقيه؛ و هذا التراث المعرفي المنقطع النظير _من جهة_ و الإنسان المسلم، الفاعل الأساس في العمل الحضاري من _جهة أخرى_ من الالتحام ؟ لعلي هنا أبحث عن حلقة الوصل المفقودة، التي تصل الإنسان/ الآلة بالمحرك الذي يمده بالطاقة اللازمة ليتصف بالدينامية بدل السكون .
فحلقة الوصل هذه من شأنها أن تعيد أمتنا إلى سكة الحضارة، لتستأنف المسير كغيرها من الأمم التي قطعت ومنذ زمن بعيد أشواطا عديدة؛ حتى أصبحت المسافات بيننا تكاد تقاس بالسنوات الضوئية. و حلقة الوصل هذه من شأنها أيضا؛ أن تصل الحاضر بالماضي من أجل صياغة المستقبل. ومن شأنها أيضا أن تعيد لنا ذاتنا المفقودة. فهي ليست بالأمر الهين و لا السهل… إنها قضية وجود و عدم! و ينبغي أن تتضافر كل الجهود من أجل البحث عنها، فتحديات العصر لا ترحم، و الأخطبوط الحضاري يبتلع كل الأجسام الضعيفة التي تقف في طريقه، فكيف إذا كان جسمنا الحضاري في عداد الموتى أو على وشك ذلك .
إن الخيرية التي وصف بها الله عز وجل هذه الأمة، رهينة بمدى تحققها بمقوماتها. فليست العبرة بالمسميات ولا بعدد المصاحف التي تطبع، وإنما العبرة بالروح التي وُصف بها الوحي ” وأوحينا إليك روحا من أمرنا” و لا جسد من غير روح؛ إلا جثمان تنهشه الديدان. وهذا هو الحاصل.. فقدنا الروح فسهل نهشنا من الداخل و الخارج. و لعل الحلقة المفقودة في كل هذا: هي الروح نفسها، أو لعلها الحلقة التي تصل الجسد بالروح، لكن المؤكد أن هناك حلقة مفقودة! و ما لم يتم العثور عليها ووصلها بسابقيها و ما يليها؛ لن تكتمل الصورة و لن تتضح الرؤيا و لن يعود للأمة ما كان لها.
و بالعودة إلى عامل النهضة الأول، و الركن الأساس الذي قامت عليه حضارة الإسلام الذي هو القرآن، فإننا سنجد مجموعة من المعوقات التي حالت دون التعاطي السليم معه، و هذه المعوقات في نظري المتواضع هي التي سببت هذا التضخم الكمي على حساب الكيفي. ومنها نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
العائق الأول: الحجب المتواصل للقرآن عن الإنسان، أي عن المحرك الحضاري للأمة. فكيف سيعمل القرآن إذا حجب عن الناس؟ وهذا الحجب يكون إما بالتشويه و ضم القرآن إلى غيره من الكتب المقدسة، ووصف الكل بالرجعية، و التخلف، و الجمود، مما يحدث النفور الدائم للشبيبة، و عن طريق التهميش أي أن يصبح القرآن شيئا ثانويا في حياة الناس قلما يلتفت إليه. و إما _وهذا وجه الشاهد لدينا_ بإغراق المكتبة الإسلامية بالكتب الحواجز! _كما أحب تسميتها_ و هي الكتب التي تسمى: “شرح الشروح”، و “شرح شرح الشروح”، و “الهامش على شرح الشرح”، تلك الكتب التي تعطل العقل؛ بإغراقها في الكم على حساب الكيف، أما عن تسميتي إياها بالحواجز؛ فلكونها تحجب الإنسان عن الوحي، و ذلك بأن يغرق المتلقي في تدرجه من الشرح إلى المشروح إلى أن يصل إلى حجر الزاوية الذي هو الوحي، وقد خارت قواه! وما عاد في استطاعته أن يستوعب خطاب الوحي.
أما العائق الثاني: فهو عائق سوء الفهم، و تلك قضية أخرى. بحيث يأتي هذا العائق بنتائج تدميرية بدل أن تكون النتائج بنائية. وذلك بأن يولد نزعات التطرف بشقيه؛ التطرف الديني و التطرف اللاديني، وكلاهما خراب للعمران و تدمير للإنسان …و سوء الفهم هذا أيضا ،ساهم في تضخم الكم على حساب الكيف؛ بحيث ولَّد آلافا من الكتب التي تنتقد الوحي، أو تتحدث باسم الوحي، وهي و الوحي على طرفي نقيض: فهما، و لسانا، و منطقا، مما يجعل محاولة التصحيح أيضا تستلزم الزيادة في الكم أيضا_لكن_مع الكيف هذه المرة .
أما العائق الثالث: فهو الاشتغال برد الفعل بدل الفعل نفسه، فعوض محاولة تأسيس المنهج المتوائم مع التصور الإسلامي، و تقوية الرؤية الإسلامية بحصون علمية، و منطقية، و فلسفية، تنطلق من استقراء القرآن و سبر أغواره، لتقدم البديل المتكامل في شتى المجالات._عوض كل هذا_ يشتغل البعض بقضايا ثانوية، أو بردِّ الهجمات المتوالية في ساحة الفكر، مما يودي أيضا إلى تضخم الكم على حساب الكيف .
في الختام، لابد من الإقرار بأن إشكالية الكم أهلكت الأمة بالاجترار دون الإبداع، وزادت الطين بلة، مما يتطلب تكاثف الجهود من أجل إعادة الاعتبار إلى الكيف، فالقليل النافع خير من الكثير المنعدم النفع.