وجهة نظر

لما كل هذا اللغط رغم وجود محكمة للنقض؟

حسب التدرّج القضائي المعمول به في التنظيم القضائي المغربي، نجد أن محكمة النقض (المجلس الأعلى سابقا)، تأتي على رأس قائمة كل المحاكم، الاستئنافية منها و الابتدائية، على اختلاف أنواعها.

بيد أن هذا التدرّج في التقاضي،الذي ينتهجه المغرب،و الذي ظلّ محصورا لحد الآن ،في درجتين فقط : ابتدائية و أخرى استئنافية ،يستبعد محكمة النقض،كدرجة من درجات التقاضي.مانحا إياها و بصفة أساسية، سلطة مراقبة ما يصدُر عن غيرها من المحاكم من مقررات قضائية،وفي مدى ملائمتها وخضوعها للقانون.إضافة إلى أدوار أخرى..و كما هو معلوم فالمقررات القضائية ،في الاصطلاح القانوني ،تندرج ضمنها ، الأوامر و الأحكام و كذا القرارات .

هذا التوجه، تعتمده غالبية الدول.والقلّة القليلة ،مَن تنْتظم عكس ذلك ،و تعتمد درجة واحدة في التقاضي.في المغرب أيضا،سبق وثمّ تجريب نظام التقاضي على درجة واحدة،لكن و لأسباب متباينة..ثمَّ الاستقرار على نظام التقاضي على درجتين.

و رغم هذا و ذاك ،فمحكمة النقض أو المحكمة العليا ،التي تختلف مسميّاتها من بلد لآخر ،في حين أن مضمونها يبقى واحدا ،ظلّت ضرورة لا محيد عنها في جلّ الدول.إذ لا يوجد نظام قضائي في العالم، إلاّ و يوجد على رأسه محكمة عليا ،وظيفتها الأساسية،في الأغلب الأعم ، مراقبة مِن أعلى،لما يصدر أسفل.الأمر الذي يدلّ على أهميتها في ضبط و توجيه العمل القضائي.بل وتبقى الفيصل ،الذي يتمّ الاحتكام إليه ، في ما يشجر من جدال ،حول بعض القضايا..خاصة ذات الأهمية البالغة ، كتلك التي تطغى بقوتها على الرأي العام .

من هنا ،فقد يقال ،طالما الأمر على هذا الحال ،ما الدّاعي إذن ،لذلك الجدل القائم الآن، الذي أفرزته تلك القضايا الآنية ،التي احتار معها الرأي العام الوطني و حتى العالمي ،ما دام أن هناك محكمة النقض ،و أنها ستراقب في نهاية الأمر ، تلك المقررات التي ستصدر؟

و فضلا عن ذلك ،فإن كلّ الممارسين للعمل القضائي،يجعلون من قراراتها،موجِّها و نبراسا لعملهم .و يسلمون بها كاجتهادات قضائية ،يتخذونها أسلحة في وجه كل انحراف أو زيغ في تطبيق القانون. إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال ،تصوّر مخالفة ما سارت و تسير عليه محكمة النقض في توجهاتها القضائية.وذلك كله ،ليس جبرا و إنما يقينا.

لكن ذلك الجدل و ذلك (التخوف) الذي يبديه جميع أطراف تلك القضايا ،له ما يبرّره ،رغم ما قيل عنها و رغم ما تتمتّع به من رؤية حاسمة و مقنعة لما يصدر عنها.و لعلّ ذلك ،مردّه يعود لعنصرين اثنين:

العنصر الأول : هو طول و تعقيد الإجراءات القضائية في المرحلتين الابتدائية و الاستئنافية.و هذا واقع لم يرتفع بعد ،ولا يمكن مع ما يجري و يحصل ،إلاّ الإقرار به.

أمّا العنصر الثاني :و هو الأهم،يكمن في كيفية و طريقة تعامل محكمة النقض مع المقررات التي تُحال عليها.فالاصطلاح الذي بات موسوما لدى كل العاملين في الميدان القانوني ،الذي يسلم على أن محكمة النقض هي:” محكمة قانون و ليس محكمة واقع “،هو تعبير صريح فصيح عن طبيعة معالجتها لتلك المقررات التي تعرض عليها.ذلك أنها تقتصر في مراقبتها تلك، فقط، فيما يتعلق بما هو قانوني ،و لا تتعدّاه إلى ما هو واقعي.”نسبة إلى وقائع أي نازلة”.

و ببساطة تامّة ،فهي لا تهتم بالوقائع ،بقدر ما تهتم بالتطبيق السليم للقانون ،بصرف النظر عن صحة أو عدم صحة تلك الوقائع ،التي صدر على ضوءها ذلك المقرّر.و ربما هذا،يجد له تفسيرا و تبريرا ،يروم ،تفادي الخلط الذي قد يؤدي إلى القول على أنها درجة ثالثة من درجات التقاضي .

ثم إن ذلك ،أي حصر دورها في مراقبة تطبيق القانون فقط ،يجعلها تنكفئ كذلك على عدم مراقبة ما يصدر من عقوبات سالبة للحرية ،إذا تكلمنا على القضايا الجنحية و الجنائية ،لأن القانون ،يجعل العقوبات تدخل في صميم قناعات القاضي الذي يصدرها .إذ أنه يمكن أن يحكم بالعقوبة التي أراد ،و لا مجال لمراقبته في ذلك عدا ضميره هو .

كل هذه العناصر مجتمعة..تفسر ذلك اللغط الكبير الذي وصل صداه إلى كبد السماء ،بعدما ضجت به الأرض أولا. خاصة لو ثم الأخذ بعين الإعتبار أن العديد من المقررات القضائية ،بعدما يتم الطعن فيها بالنقض ،تحال مرة أخرى للنظر فيها من جديد ..لكن ليس بسبب عدم صحة الوقائع ،و إنما بسبب عدم التطبيق السليم للقانون .

و كما يظهر،فمراقبة صحة وقائع القضايا لا تقل أهمية على مراقبة صحة القوانين التي تطبق عليها. إذ لا يمكن صدور مقرر قضائي من دون وجود وقائع .و عليه فإذا ما كان هناك آليات لمراقبة التطبيق السليم للقانون المثمثلة في محكمة النقض، ألا يمكن القول على أنه من الأحرى و الأجدر كذلك ،توفير آليات أخرى ،وظيفتها مراقبة صحة الوقائع؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *