مجتمع، منوعات

“الكوارتيا” والمتسولون.. “المزعجون” في المحطات من أجل لقمة العيش

“الدار البيضاء لوطوروت، مراكش، بني ملال، أكادير، الجديدة دبا…”، عبارات محفوظة تُنطق بسرعة من أفواه مجموعة من الأشخاص بمدخل كل المحطات الطرقية، أحيانا تتجاوز الأيادي الصوت لتقدم لك مساعدة “شبه مفروضة” إن لم تحسن التملص أو أسأت النظر أو أخفقت في المشي باستقامة وثبات.

وجوه أغلبها شاحبة، لها حظها الوافر من صدام الشوارع الذي نحث على الخدود علامات السيوف والسكاكين الكبيرة، تتجول بمذكرات تذاكر النقل “لجميع الجهات”، ورقات قد تأخد للوجهة التي تريد بثمن زائد، أو تبقيك في مكانك متحسرا لأنها قد تخلق لك مشاكل مع “كريسون” حافلة النقل التي صعدتها دون إذنه، لأنك وببساطة أخذت الورق الخطأ من الرجل “الداهية” الذي داعب أذنيك بالوجهة التي تحب الوصول إليها سريعا، لتقبل مساعدته “المفروضة”.

الخبز حار

شباب في مقتبل العمر وآخرون يودعون المرحلة، يصيحون صباح مساء داخل المحطات بأسماء المدن المغربية، “رماهم الشارع إلى هنا بعد تفكيرهم في وقت متأخر حتى يدخلو غمار الحياة ويتشبتوا بجادة الطريق إحساسا بوجودهم ودعما لوالديهم، طامحين في توفير مدخول بإمكانه أن يغطي مصاريف اليوم وليس الغد”، هكذا أجابنا سعيد الذي زاول مهنة “الكورتي” قرابة 10 سنوات بمحطة بني ملال، لما كان في بداية العشرينيات من عمره.

يقول سعيد إن “الكوارتيا” يدرون أنهم يسبون ويلعنون خفية تحت ألسن المارة إلى داخل المحطة، لأن ذلك بائن على نظرات بعض المسافرين وإهمال وعجرفة الآخرين، “البلاد معطاتناش حنا لي مقريناش”، وقسوة الحياة أرغمتنا على البحث عن سبل لكسب الرزق، لذلك وجدنا المحطة أحد الملاجئ حيث نأكل كسرة خبز حار، إذ نتدافع فيما بيننا للوصول إلى زبون ترى فيه بضعة دريهمات قد لا تأخذها أحيانا كثيرة، وفق تعبيره.

فطنة وحيلة

ينزعج عبد الرحيم كباقي المسافرين في المحطة الطرقية بالدار البيضاء، من كثرة الأشخاص الذين يلعبون دور الوسيط أو المرشد بين المسافر وبائع التذاكر أمام الحافلة، ويقول “للعمق” إن هذه الوساطة من مسببات زيادة ثمن التذاكر أحيانا، أما القائم بدور المرشد إلى الحافلة أو المساعد في حمل الحقائب دون طلب إذن في ذلك، فيفرض عليك مقابل مادي تحس أنها رسوم واجبات المحطة.

شاب آخر بالعاصمة الاقتصادية يدعى عماد، قال لـ”العمق”، إن الكذب أحيانا والحيلة أحيانا أخرى، يكفان عنه ملاحقة الوسطاء وازعاجهم بالسؤال عن وجهته، إذ يكفي القول “لقد سبق أن أخذت التذكرة من المكتب، أو جئت لأرسال سخرة، أو ألتقي لأحد الأحبة”، عبارات ستغنيك عن ملاحقتهم لك.

أما عن تقديم يد العون لشباب وجدوا ضالتهم بالمحطات، يضيف عماد، “فعلى الرحب والسعة أن نقدم يد المساعدة لإخواننا الذين نتقاسم معهم هموم الفقر والبطالة والعطالة، لكن وجب الدراية أن الفقر وعدم التوفر على مورد رزق لا يبرر لأي أحد كيف ما كان أخذ مال الضعفاء كونهم في نفس المستوى أو أقل، أو حتى القبول بأمور لا تليق بشهامة الرجال وأنفتهم”.

منع وإقبال

في محطة مراكش الطرقية، استوقفتنا يافطة من الحجم الكبير، تقابل كل مسافر قاصدا بهو المحطة من باب المسافرين الرئيسي، كُتب عليها بخط عريض وواضح: “يمنع منعا كليا التعامل مع الوسطاء”، لكن العكس تماما هو ما يحصل، فهم على كثرتهم يتنقلون يمنة وشمالا بأصواتهم التي يرددها سقف المحطة، تاركة رنين دبدبات في الفضاء تزعج الكبار قبل الصغار.

ورغم من هذه اليافطة الكبيرة، وأخريات صغيرات تمنع التعامل مع “الكورتي”، بالإضافة إلى “المكائد” التي يتلقاها مسافرون خلال كل رحلة سفر، إما بتأخر موعد الحافلة أو أداء مقابل مادي على الحقائب، أو بيع المقاعد الأمامية لأول زبون يقدم عربونا لمساعد السائق، أو زيادة على ثمن التذكرة لاستفادة الوسيط الباح حلقه بأسماء المدن، إلا أن ثقافة المسافرين لم تتطور بشكل يرقى للتعامل مع مكاتب النقل المخصصة لكل اتجاه محدد.

المتسولون

صعدت مسنة تخفي ملامح وجهها بحيك مغربي أصيل إلى أحد الحافلات المتوجهة إلى بني ملال من مدينة مراكش، مرددة عبارات من قبيل: “أنا نقصد خوتي، والمقصود الله، شكون يشوف بعينوا ويحن بقلبوا، لهلا يخوي ليكم جيب، لهلا يتلي بيكم زمان، لهلا يبين فيكم عيب”.

حفظ المسافرون جملها الموزونة، بل منهم من يردد معها لعذوبة صوتها وحنان كلماتها، في المقابل لا أحد تلمس جيبه ليقدم لها العون، واضح من خلال ترديدهم لنثرها الرقيق أنهم يعرفونها منذ زمن ليس بالقليل، ورغم أنها لم تحصل على شيء، لكنها تموه بطيب كلامها الذين خلف ظهرها أنها حصلت على ضالتها: “الله يجعل هذ البركة لي عطيتيني في ميزانك عند الله”

“كثيرون من يستعطفون الناس داخل الحافلات، لا نعرف صدق نواياهم، لكن تكرار كلامهم بنفس النبرة والكلمات، والمشاكل التي يعكرون  بها مزاجنا، خاصة لأننا في غنى عنها نحن المغاربة، كون سفرنا قل ما تم ربطه بالمتعة والتجول، يجعلنا نشكل في كونهم يحتاجون فعلا للمساعدة”، يقول أحد المسافرين لـ”العمق”.

من عرق الجبين

بمحطة قلعة السراغنة، رجل كفيف في الأربعينيات من عمره، أبدع في أخذ قلوب المسافرين، يحمل في يده اليسرى علبة كرتونية مملوءة بمناديل الأنف، تاركا يده اليمن تلوح بنوع المناديل التي يُعرض بكلام مؤثر، يردد “عاونوا هذا الكفيف رب أسرة لأربعة أبناء بشرائكم منه، أنتم تستفيدون وأنا أحظى بدرهمين”.

أحد المسافرين سُر بكلام الكفيف، فلم يتردد في إدخال يده للجيب دون أن يرى المبلغ الذي سيقدمه مقابل علبة المناديل تلك، ولما وصل لجانبه طلب منه واحدا فأعطاه المقابل بشكل أوفر، أحس الكفيف لما تلمس القطعة النقدية أنها أكثر من درهمين، فسأله كم هذه كي يرد على الباقي، فأجابه رجل الخير: “إنها حلال عليك هي والعلبة”.

بعد هذا المشهد، لم يتردد الكفيف في تلقين المسافرين عبرة ظلت حديثنا طوال الرحلة، قائلا: “سأرتاح بأخذ الباقي من الأموال لأبنائي المساكين، لكن احتفظ بعلبة المناديل، لأنك ستربي فيَّ التسول ولا أريد أن أحس بنفسي ضعيف أمام عائلتي ومجتمعي”.

إزعاج المنزعجين 

معظم من التقت بهم “العمق” في مختلف المحطات الطرقية، لا يخفون أن “الكورتي” والمتسول يزعجون المسافرين خلال رحلاتهم، فمنهممن يفقد لذة التفكير كيف سيلقى الحبيب، وآخر غارق ذهنه في التفكير للوصول إلى الطبيب قبل الموعد المحدد، وهناك من يتعجل لحضور جنازة أو فرح، لكن هذا الإزعاج ناتج أيضا عن فقرهم وحاجتهم وحالتهم تلك التي يمرغون فيها كبرياءهم تحت التراب ليطأه الداني والقاصي.

يختم أحد المسافرين لـ”العمق” قائلا: “مشاكلهم على من؟ وسهامكم اتجاه من؟، الأول جوابه أنتم تعرفونه أكثر منا، أما الثاني فنحن نقول لكم إنكم تنتقمون من إخوتكم الذين يشاركون معكم جميع المشاكل التي أخرجتكم حتى تفرضوا عليهم تقديم الخدمات بمقابل مادي أو تزيدون عنهم ثمن التذاكر، إنكم ترمون الهدف الخطأ، وتصيبون من ليس له مثقال ذرة في حالتكم التي تعيشونها، فلله شكوى المقهورين وشكواكم”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *