وجهة نظر

عن جدل الحريات الفردية

ليس أضعف من ضعف الفكرة، من اختيار الزمن الخطأ لطرحها، خاصة حين تكون الفكرة/القضية موضوع خلاف كبير.

مناسبة هذا الكلام، استدعاء قضية “الحريات الفردية” من قبل تيار في المجتمع، له رأيه وطرحه، وإلصاقها بقضية الصحفية هاجر الريسوني المرتبطة بحرية الرأي والتعبير والتضييق على الصحافة، مما أضعف موقف الصحفية وكتلة المدافعين عن مظلوميتها.

الخلاف مع أصحابنا في الضفة المجاورة حول إثارة الموضوع، خلاف في الشكل ثم في الجوهر.

1- في الشكل:

– لا شك أن المعركة الأساسية في المغرب اليوم منصبة حول الحقوق السياسية قبل أن تكون على الحقوق الثقافية والمدنية؛ فالأمثل تعبيد الطريق نحو نظام الحكم الديمقراطي الذي يتيح فتح الملفات المدنية والثقافية والفلسفية الخلافية، والبحث حينها -في ظل أجواء من الحرية والكرامة- عن أجوبة خلاقة لها.

– لا تتكئ السلطة على نصوص القانون لضرب المعارضين فقط، بل تعتمد أيضا على القضاء وعلى سلطة إنفاذ القانون. فالمشكل إذا مركّب، يرتبط ببنية النظام وسلطاته وطبيعة علاقته بالمجتمع، وليس فقط بالنص القانوني المعيب من وجهة نظر دعاة الحرية الفردية.

– ولأن الأمر كذلك، فالتعسفات والتضييقات التي طالت عددا من الصحفيين كالجامعي وأنوزلا وبوعشرين والمرابط وغيرهم (ناهيك عن الحقوقيين والسياسيين وعموم المعارضين)، أوضحت أن الأمر أكبر من مجرد نصوص.

– هاجر الريسوني، ومعها الخبرة الطبية والمرافعات القانونية، نفت وفندت تهمة الإجهاض، فربطُ الدفاع عنها بالدفاع عن “حق الإجهاض” (حرية وضع حد للحمل)، ربط متعسف وغير مفهوم ولا مبرر.

2- في الجوهر:

– الحريات الفردية (الإجهاض، العلاقات الرضائية بين الراشدين، المثلية…) ليست “فردية” بالمعنى التبسيطي المخل للكلمة، بل هي قضايا تمس جوهر النظام الاجتماعي والعيش الجماعي، وتمثُّل ساكنيه لذواتهم، وللعلاقات والإنسان والكون ومعنى الوجود والمصير؛ فنحن بصدد الحديث عن تشريع لمجتمع تحكمه “رؤية للأشياء”، وليس بسن قانون لزيد أو عمر.

– في هذا السياق، يعلم كل عاقل أن حدود “الفردي” مع “الجماعي” ومساحات التماس والتلاقي، أعقد من أن تحسم فيها عبارة “حرية التصرف في الجسد” أو “راشدان يمارسان الجنس فما الضرر الحاصل للآخرين”، ويعلم كل عاقل أيضا أن “الحرية المطلقة” -من حيث المبدأ- فضاؤها الطلق هو الفضاء الخاص، وأن “الحرية المقيدة بقانون” من مسلمات الفضاء العام المشترك.

– ومن تم، لا يُتصوَّر أن يضع المجتمع كاميرا مراقبة داخل بيتك حول ما تأكل، وما تلبس، ومتى تنام، وما تشاهد، وما تستمع. فلك أن تنتحر حتى، ولا يمكن للمجتمع أن يمنعك من هذه “الحرية”. لكنك يا هذا، لا يمكنك أن تمشي عاريا داخل المجتمع لأنك أحببت ذلك، أو تغلبك شهوتك، ولأنك وشابة أصبحتما راشدين، فتُقدما على ممارسة الجنس (الزنا والسفاح) في قارعة الطريق، دون أن تمسا أحدا بسوء. ثم إنك في حرية فردية!!!

– الذين يقولون بالحريات الفردية بإطلاق، وبملاءمة القوانين والأعراف لهذه الرغبة، يحصرون مسألة الضرر في “الضرر المادي”، بل يقصرونه حقيقة على “الضرر المادي المباشر”، دون نظر في الآثار “المادية الملموسة” اللاحقة بالمجتمع (مواليد العلاقات غير الشرعية، ما نفعل بهم؟ مثلا)، ودون النظر في الأضرار المعنوية والرمزية الكبيرة؛ من خرق للقيم، وهدم للأعراف، وضرب للثقافة الصلبة الجامعة، ودفع للمجتمع نحو الالتقاطية والتسيب واللاهوية.

– يعلم أصحابنا، وشركاؤنا في هذا الوطن، أن جدلا فلسفيا وفكريا واسعا أثير وما يزال، بحثا عن التوازن بين حريات الأفراد وحقوق الجماعة، حتى لا نقع في “سطوة الجماعة” القاهرة لحريات أفرادها، وحتى لا نسقط في “الأنانية الفردانية” التي تخلخل توازن المجتمع. فالبحث عن الخلطة التي تحقق الغايات الإنسانية في الحرية والعيش الجماعي الآمن، وتحديد مرجعياتها المُحتكم إليها، أعيت العقول، وتعددت فيها الأطروحات، ولم تتأت في ضيق الوقفات والتدوينات والتعليقات.

– رغم أن يافطة “الكوني”، التي تُرفع وكأنها مُسلّمة الاجتماع البشري التي لا تقبل النقاش، يعتريها الكثير من التبسيط المخل الذي يضع أصحابها في الحرج الحجاجي عند الحوار الجاد، فإن الكثير من “الحريات الفردية” حولها الكثير من الجدل والخلاف “الكوني”!! فالعشرات من الدول، من غير العربية والمسلمة، تحرم الإجهاض أو تبيحه بقيود تخص الحالات والزمن، والعشرات من الدول أيضا تحرم المثلية الجنسية.

فلم يُراد لنا أن نسلك من اختار اختيارا معينا وليس من اختار غيره؟ رغم أن ذلكم الاختيار يصادم حقائق العقل وقناعات القلب اللذين يشكلان ذاتية مجتمعنا.

– ليس “المحافظون” و”المتدينون” (كما يسموننا) ضد الحريات الفردية بإطلاق، فالإجهاض مثلا صدرت بصدده الكثير من الآراء المتقدمة، من إسلاميين وعلماء شريعة، ترى أنه يمكن اللجوء إليه في حالات، منها مثلا: تهديد حياة الأم، أو في حالة التشوه الخلقي، أو في حالة الاغتصاب وزنى المحارم… وقيّدها بعضهم بمُدد معينة قبل أن يتشكل الجنين ويصبح “كيانا” له حقوق. المهم لا يوجد رفض مطلق، وثمة نقاش عقلاني يبحث عن المصلحة. ويمكن -في ظل النقاش الهادئ البعيد عن التوتر والضغط- توسيع هذا الوعاء لحالات أخرى يفضي النظر العقلي السوي، المبني على الرأي الجماعي الشرعي والطبي والاجتماعي، إلى إباحتها والقبول بها. أما الدعوة إلى فتح باب الإجهاض بإطلاق، فيعترض أصحابه سؤال جاد حول المبرر والقصد من ذلك.

– الذين يطالبون بإباحة العلاقات بين الجنسين، والإجهاض بإطلاق، والتمكين للمثلية الجنسية، والتحول الجنسي… يتحاشون تفصيل القول في كيفية التعامل مع نصوص شرعية صريحة، قالها رب العزة سبحانه وبلغها رسوله الكريم إلى أمة الإسلام، عن أحكام الزنا واللواط ووضع حد لحياة الجنين. فهم يعلمون أنهم لا يطالبون بالتشريع لشعوب المكسيك أو البرتغال أو التايوان، الخاضعة تشريعاتها بدورها لثقافاتها وأعرافها وماهيتها، بل يريدون، في مجتمع مغربي مسلم، تحليل ما حرم الله صراحة، ليس لهم كأفراد، فهم أحرار في أنفسهم وحياتهم الخاصة، بل بقوانين تهم الجميع وتؤطر سلوك المجتمع.

على سبيل الختام: لست متخصصا في الموضوع، ولا أريد في هذه الدندنة القول إن معارضي الحريات الفردية، بالشكل الذي يطرحه دعاتها، لهم الأجوبة النهائية لكل قول وسؤال، ولكن أريد القول إن الموضوع أعقد مما يطرحه التيار الحداثي (أسميه هكذا تجاوزا)، والقضية ليست بالتبسيط المخل الذي يلقيها به أصحابها، وأريد القول أكثر إن المواضيع الخلافية الكبيرة لا تطرح في الأزمنة الخطأ. ولحظة هاجر الريسوني “زمن خطأ” لطرح قضية الإجهاض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *