وجهة نظر

الأغاني المغربية من المقاومة والانتصار بالتعبير.. إلى الرداءة والانحلال

العمل الغنائي أو الفني عامة، يعبر عن روح وثقافة وحضارة المجتمع في أي زمان ومكان ،والفنان هو جزء من المجتمع لا يمكن تصوره منعزلا .

والعمل الفني وليد عمل إنساني ووليد المجتمع، وهو تجسيد لفكرة ما؛ بأحد الأشكال التعبيرية. وسنقف هنا عند الغناء كشكل فني تعبيري عن واقع اجتماعي معيش. وسنحاول التطرق على بعض النماذج الغنائية من الزمنيين القديم والمعاصر.

فكنموذج يهم الأغاني القديمة التي خلفت وقعا على مستوى الذاكرة الجماعية، نجد أغاني الشيخة خربوشة التي خاطبت بالمباشر في إحدى عيطتها القائد عيسى بن عمر، هذا القائد الذي كان يعتبر من أكثر القواد الجهويين أهمية نهاية القرن 19 بقبائل عبدة ، وبالمقابل كانت الشيخة خربوشة آنذاك لا تملك سلطة ولا شيئا آخر موازيا، لكنها كانت تملك جرأة تعبيرية استثنائية؛ أي سلاحا شفهيا يحمل دلالات رمزية ومعان لها ارتباطات متينة بالوقائع والأحداث التي مرت بها قبيلتها، إلى درجة اتهمت بالتحريض وخلق الفتنة، والحقيقة تقول غير ذلك ؛ حيث لم تكن ترضى بالظلم الذي كان ينارس على الأفراد والجماعات داخل قبيلتها، فجراء تلك المعاناة التي عايشتها هذه المقاومة، اتخذت عيطاتها كوسيلة للتحدي وجمع شمل القبيلة، وتمرير رسائل قوية اللهجة للقائد حتى يتراجع عن ممارساته اللاإنسانية، كما حاولت أن تؤكد لقبيلتها أن خربوشة ليست كما يروج لها بالشيخة بالمفهوم القدحي، إنما هي النخوة والعزة وضماد لكل الجروح ، وانجلى هذا حينما استهلت أغنيتها ب:

خربوشة ماشي قصارة وركزة،

خربوشة نخوة وعزة تشفي الجراح وقت الحزة …

وتهاجم القائد عيسى قائلة في نفس الأغنية :

تعديتي وخسرتي الخواطر وظنيتي القيادة على الدوام ،في يامك الجيد ما بقالوا شان،

سير آ عيسى بن عمر اوكال الجيفة …يا قاتل خوتوا يا محلل الحرام،

حرقت الغلة وسيبتي الكسيبة وسقتي النسا كيف الغنام ويتمت أصبيان بالعرام …

هذه بعض الكلمات فقط مقتطفة من أغنية خربوشة، هاجمت فيها القائد عيسى محاولة فضح سلوكاته اتجاه قاطني القبيلة وكل الشرائح الاجتماعية، وفي نفس الوقت كشفت للعامة الظلم والقهر والتسلط الذي يمارسه هذا القائد خاصة على قبيلتها، إذ حاولت هذه الأيقونة المناضلة في أغنيتها هاته الوقوف على أشكال تسلط القائد عيسى من خلال استحواذه على الأملاك ، وقتله للفئة المعارضة له ولشططه السلطوي ،كما وضعت يدها على ظواهر اجتماعية أخرى لاعدالية، الكامنة في الإقصاء الاجتماعي الذي تعرضت له المرأة القروية للحط من كرامتها واستعبادها، إلى جانب تيتيم الصبيان من خلال قتل الآباء .

فرغم الخطورة التي كانت تعي بها خربوشة، لم ترهب يوما ولم ترجع إلى الوراء، بل حاولت قول الحقيقة والتمرد على القرارات الجائرة والتحلي بالشجاعة، وهذا ما أبرزته في أغنيتها الشهيرة، وهو تعبير صريح لمواقفها الثابتة ، واعتزاز عظيم بانتمائها الهوياتي، ولقولها هذا لخير شاهد:

” واخا اقتلني واخا خلاني مندوز بلادي راني زايدية … ”

إن أغاني خربوشة هزت حاشية ونفسية القائد عيسى، وجعلت من ثوار أولاد زايد كلهم حماس لإيقاف ظلمه وجشعه، فلم يكن هو وحده على هذه السيرة، وانما كان جل القواد في اغلب المناطق في تلك المرحلة على نهجه ، الى جانب القايد العيادي الذي كان يستحوذ على أجود الأراضي وأخصبها ويمارس جل أشكال البطش بتعبير نجيب بودربالة.

سنقف على مثال آخر من الأغاني ويتعلق الأمر بمجموعة ناس الغيوان التي تأسست في متم ستينيات القرن الماضي بأحد أفقر الأحياء الشعبية بالدار البيضاء (الحي المحمدي)، إنها فرقة موسيقية تراثية لها حمولة تاريخية واجتماعية، يعود الفضل؛ لمؤسسيها الآتية أسماؤهم: بوجميع والعربي باطما وعمر السيد وعبدالعزيز الطاهري ومحمود السعدي. إنها مجموعة غوانية أخذت على عاتقها مشاكل الناس، إلى حد تم توصيفها بحركة سياسية من خلال الإقبال على مواقفها؛ من طرف الطلبة والسياسين والعمال المتنوريين، وخصوصا أنها كانت تغني كلمات تحمل دلالات جد عميقة؛ همت نمط العيش لدى الفئات الاجتماعية الهشة: (عايشين عيشة الدبانة فلبطانة )، كما كانت أيضا تخاطب أصحاب القرار السياسي طامحة في بلوغ العدالة الاجتماعية؛ والديمقراطية وتجاوز الحيف و الإقصاء: (اشنو الفرق بين أنت وأنت وأنا …)، بمعنى أن الغناء في تلك المرحلة كان يحمل رسالة ويأخد صفة مقاومة بأساليب حضارية، وأنها صوت شعب وتعبير اجتماعي واقعي عن أوضاع اقتصادية سياسية واجتماعية .

أما في وقتنا الراهن، فأمام النماذج الغنائية التي أصبحت تنتصر للتفاهة ولهشاشة ثقافية واجتماعية وأخلاقية، سنقف على بعض الأمثلة التي لا تستحق الوقوف عليها، لكن من باب الفضح الاجتماعي والحذر الأخلاقي فقط، سأعطي أمثلة لبعض هذه الأغاني :

” باغي نسكر باغي نزطل … ”

في هذا الكلام دلالة على الرغبة في العربدة والانحراف وأن معالجة المشاكل المجتمعية والشخصية وتجاوزها رهين بالسكر والتدخين للمخدرات .
مثال آخر:

” ارقصي يا الله جنينيهم … ”

فهذه إشارة إلى الرقص والركض بأجساد عارية، وإيجاز عظمة المرأة في مفاتن جسدها فقط.
و مثال آخر :
” نقتل عليها ولانهبل… ”

هنا إشارة إلى نشر العنف بكل أنواعه، هذا بالإضافة إلى بعض الأغاني ذات الحموضة الزائدة التي لم تترك أي فاكهة طبيعية، حيث اتخذت كأداة للتشبيه، تشبيه زائف بأعضاء جسد الأنثى، وأيضا للتغزل بأساليب بالية جدا لا ترقى إلى المستوى، ففي ذلك عنوان بارز لفراغ ثقافي وفكري وتشجيع للبلادة والبلاهة .

مختتم القول، فالخطير في هذه الأغاني هي تلك الخطابات التي تشجع على جل أشكال الإجرام والانحراف والانحلال الأخلاقي ، والأخطر في الأمر كذلك، فبدل تدخل الجهات الرسمية في كبح هذه الظواهر الشاردة عن ثقافتنا؛ تعمل على التجاهل والتغافل، والذي يزيد الطينة بلة هو التشجيع التي تحضى بها هذه الأغاني إعلاميا؛ من طرف مواقع لا تخرج عن سياق البوز و الطوندونس.

• طالب باحث بماستر سوسيولوجيا المجالات القروية والتنمية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *