وجهة نظر

“عتبة النجاح” تقلق أبناءنا أكثر من كورونا

خلف السيناريو الذي اختارته وزارة التربية الوطنية، بشأن إتمام الموسم الدراسي ارتياحا لدى الآباء، والأمهات، وأولياء التلاميذ، إذ في عز هاته الأزمة التي يعيشها العالم بأسره، ما من أسرة لها الاستعداد للتضحية أو المغامرة بفلذات أكبادها، خصوصا وأن الوضعية الوبائية ببلادنا لا تبعث على الاطمئنان لحد الآن.

غير أن الوقع كان مختلفا عند معظم التلميذات والتلاميذ، إذ تلقوا الخبر بمشاعر متضاربة، فمن جهة، عبروا عن فرحة عدم استكمال المقرر الدراسي، وبالتالي التخلص من عبء مجموعة من الدروس التي لم يتم إنجازها. في الوقت نفسه خلف القرار عند نسبة كبيرة منهم تخوفا كبيرا، وقلقا ترجمته استفساراتهم، وأسئلتهم الكثيرة، والمتكررة، والملحة، حول “عتبة النجاح”؛ فقد استغلوا ظرف الاستثناء الذي تعيشه الدولة بكل مؤسساتها، ليطالبوا بخفض هذه العتبة. قد يتبدى أنه مجرد طلب ساذج يعبر عن رغبة أبنائنا في النجاح، وانتهى الأمر، ليت المسألة بهذه البساطة!

في الواقع، ردة فعل تلامذتنا هذه، تعكس وتعري التصور الذي كرسته المدرسة المغربية للنجاح.

يختصر التلميذ المغربي النجاح المدرسي، في حصوله نهاية الموسم الدراسي، على معدل يساوي أو يتجاوز “العتبة”. في الحقيقة هذه القضية التي تؤرق تلامذتنا، تفيد صيغة الانتقال من مستوى إلى المستوى الموالي، وبهذا تكون نسبية إلى حد ما، باعتبارها مرتبطة بصيغة أو بأخرى بالبنية التربوية للمؤسسة. واضح إذن أن “العتبة” ضرورة تقنية انتقائية وفقط، فيما النجاح المدرسي نجده أكبر من ذلك بكثير؛ فهو يرتبط بتحقيق أهداف تعلمية محددة، والتمكن من مهارات معينة، واكتساب قدرات مختلفة…، في فترة دراسية محددة، ليس شرطا أن يكون موسما دراسيا؛ إذ يمكن أن نقيس نجاح المتعلم خلال مرحلة دراسية، أو خلال المسار الدراسي ككل. فيما نجد المعدلات الدراسية، والشهادات، والديبلومات…هي ما يحدد ويثبت النجاح الدراسي؛ أي أن هذا الأخير مرتبط بإنجاز وبمردودية المتعلم.

جميل أن يسعى التلميذ للحصول على شهادات، ومعدلات عالية، تمكنه من الولوج إلى معاهد، وكليات ذات الاستقطاب المحدود. وإن كان الأمر كذلك، فهو تلميذ متميز، و حقق ما نسميه بالنجاح الدراسي، الذي تطمح إليه المدرسة العمومية. بهذا المعنى التلميذ الذي لم يوفق في الحصول على شهادة، أو معدل محدد، فهو فاشل دراسيا؛ وقع الفشل في الامتحان وما يحمله من معاني العجز، والغباء للتلاميذ أمام أقرانهم، قد سبب لمعظمهم أزمات نفسية، وصلت بحالات منهم للانتحار.”فعند الامتحان يعز المرء أو يهان” العبارة التي ساهمت بشكل كبير، في تصوير فكرة الامتحان كشبح مخيف عند المتعلم. وحيث إن ما من نفس ترضى أن تهان، كيفما كان الحال، كان من المنتظر أن يبحث تلاميذنا عن الأساليب المشروعة، وغير المشروعة للنجاة من جحيم الفشل، ومخلفاته؛ بمعنى لم يعد الأصل هو النجاح، الذي تتوخاه المؤسسة التعليمية، والأسرة، والمجتمع ككل. نفهم من هنا، بل ويمكن أن نتفهم قلق وارتباك أبنائنا، الذين عبروا عنه في تساؤلاتهم حول “عتبة النجاح”، وإمكانية خفضها. أيوجد أدنى من هذا الحضيض في التطلعات؟

أعتقد أنه حان الوقت ليتخلص التلميذ من هذا التصور المعاق للنجاح الدراسي، ليتخلص معه من ضغوطات كثيرة: نفسية، وأسرية، واجتماعية… ويتصالح مع المدرسة، والأستاذ، ويبني علاقة متوازنة مع نفسه، والمجتمع ككل.

لن يتجاوز تلامذتنا فهم فكرة النجاح بهذه الصيغة، إلا إذا تداركت المدرسة الأمر، وعملت على توسيع مفهوم النجاح، بتضمينه أبعاد مختلفة. أعتقد أن طفل الجبال، الذي يقطع عدة كيلومترات في عز الشتاء، والحر، بأمعاء فارغة، ليصل إلى حجرة الدرس، هو تلميذ ناجح بشكل، أو بآخر؛ لا أقصد أن أقحم مفهوم النجاح في نقاش النسبية، بل الإشارة فقط، إلى وجود نجاحات مختلفة، ومتعددة، قد يحققها التلميذ، داخل المدرسة وخارجها؛ وفي الوقت الذي يحتاج منا الاعتراف بها، ننتظر منه أن يتجاوز عتبة محددة، لننظر في نجاحه من فشله.

لتجاوز هذا المأزق، يجب تبني تصور جديد للنجاح المدرسي، وهذا ما عبر عليه “بيير بوتفا”، الذي اقترح مفهوم النجاح التربوي، الذي من خلاله ننظر إلى التلميذ كفرد مشارك، قادر على الخلق، والإبداع، ومن حقه الفشل.

بهذا المعنى، فالنجاح التربوي يحتم علينا النظر في جوانب مختلفة من التلميذ، في اهتماماته، وانتظاراته، ومواهبه، ومساعدته على بلورة مشروعه الشخصي؛ سواء تعلق بالمسرح، أو الحساب الذهني، أو القراءة … إن هذا المعنى للنجاح، سيسمح بالتميز، بل وسيحتضنه، على خلاف التصور التقليدي؛ حيث في ظله تستنزف المدرسة طاقتها لمحاربة الفشل. إن النجاح الحقيقي إذن، الذي يجب أن نراهن عليه، هو تكوين مواطن الغد، الذي يثق بذاته ويطورها، والذي يشارك في بناء مجتمعه، والذي يحترم قناعات الغير…لا أظن أن تلميذا يتلقى مثل هذا التكوين، سيفكر في الغش يوما، أو ستقلقه “عتبة النجاح”، فقط لأن طموحاته ستكون أكبر بكثير.

* أستاذة وطلبة باحثة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *