مجتمع

في اليوم العالمي للأرشيف: أية تحولات للأرشفة في زمن “ما بعد كورونا”؟

يحتفل العالم يوم التاسع من شهر يونيو الجاري، باليوم العالمي للأرشيف (أقره “المجلس الدولي للأرشيف”- الذي تأسس في 9 يونيو 1948م بدعم من “اليونسكو”- لتعزيز آليات التعاون بين المؤسسات الأرشيفية عبر العالم، والارتقاء بمستوى ممارساتها الأرشيفية)، في ظرفية خاصة واستثنائية مرتبطة بجائحـة “كورونا المستجد” – كوفيد 19- التي لم تربك العالم فحسب وتزحزح الكثير من الرؤى والمفاهيم والأولويات والاختيارات، بل، و أحدثت ثــورة رقمية ناعمة “فجائية”، مست الكثير من القطاعات والميادين، في ظل إقدام دول العالم، على تنزيل تدابير استعجالية تكاد تكون نسخا “طبق الأصل”، من قبيل إغـلاق الحدود الوطنية، وفرض حالات الطـــوارئ الصحية وحظر التجوال وفرض القيود على التحركات والتنقلات، كتدابير وقائية واحترازية، تحكمت فيها هواجــس التصدي للفيــروس التاجي والحيلولة دون انتشار العــدوى، وهي تدابير متعددة المستويات، فرضت الاستنجاد بالرقمنـــة وما تتيحه تكنولوجيا الإعلام والاتصال من إمكانيات وفرص تواصلية، لتأمين استمرارية العمل والأنشطة والخدمات، والإبقـاء على جسـور التواصل قائمة بين الإدارات والمقاولات ومرتفقيها وزبنائها، مما أطلق العنان لبـروز ممارسات إدارية وتواصلية جديدة، أو على الأقل لم تكن حاضرة بنفــس القوة والحدة، من قبيل “التعليم عن بعد”، “العمل عن بعد”، “التقاضي عن بعد”، “الاجتماعات عن بعد”، “التجارة عن بعد”، “اللقاءات والبرامج الإعلامية عن بعد”، “الصحافة الورقية عن بعد”، “الاستشارات الطبية عن بعد”… إلخ.

وهي فرصة لاستحضار مسلسل بناء المنظومة الأرشيفية الوطنية، التي مرت عملية إرساء لبناتها عبر محطات، أولها: إصدار القانون رقم 69.99 المتعلق بالأرشيف (30 نونبر 2007) الذي شكل أول قانون أرشيفي في مغرب الاستقلال، ثانيها: إصدار المرسوم رقم 2.08.543 القاضي بتحديــد أعضاء المجلس الإداري لأرشيف المغرب (21 ماي 2009)، ثالثها: ارتبط بمنشور صادر عن السيد رئيس الحكومة رقم 11/2011 المتعلق بالوثائق الإدارية والأرشيفية الصادر بتاريخ 6 أكتوبر 2011، رابعها: إصدار المرسوم التطبيقي رقم 2.14.267 القاضي بتحديد شروط وإجراءات تدبير وفرز وإتلاف الأرشيف العادي والوسيط، وشــروط وإجراءات تسليم الأرشيف النهائي (4 نونبر2015)، وخامسها: إصدار المرسوم رقم 2.17.384 القاضي بإحداث المجلس الوطني للأرشيف (8 غشت 2017)، وبذلك، نستطيع القول أن بناء الصرح الأرشيفي الوطني، قد استكمل منذ سنة 2015 بإصدار المرسوم التطبيقي الذي حدد هندسة تدبير الأرشيف العامة، وهذا البناء التشريعي، أسندت مهام تنفيذه لمؤسسة “أرشيف المغرب”، وهي مؤسسة تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، و التي تفضل صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، بتعيين مديرها في شخص الأستاذ الجامعي والباحث في التاريخ المعاصر “جامع بيضا” بتاريخ 30 مارس 2011، وأعطيت انطلاقتها الرسميـــة غضون أواخر شهر ماي 2011 (27 ماي)، وصنفت سنة 2012 ضمن قائمة المؤسسات العمومية ذات الطابع الاستراتيجي، اعتبارا لأدوارها التاريخية والعلمية والتراثية والهوياتية والحقوقية والحداثيـة وغيرها.

يوم عالمي للأرشيف، يأتي كما تمت الإشارة إلى ذلك، في ظل جائحة “كورونيــة”، يمكن المجازفة في القول أنها أحدثت إن صح التعبير “ثــورة رقمية ناعمة” في حقل الأرشيف الذي كان في شموليته خاضعا لسلطة الأرشيف التقليدية (الورقية)، وتوضيحا للرؤيـة، نؤكد أن هذه الجائحة، أفرزت أنماطا من التواصل الإداري والمهني والتربوي “غير مألوفة”، أو على الأقل لم تكن حاضرة بهذه القوة وهذه الدرجـة، وبهذا السخاء “الرقمي” الكاسح، وضعتنا أمام “أرشيف” بثلاث هويات مختلفة، أولها: الأرشيف التقليدية (الورقية)، ثانيها: الأرشيف “الرقمية” (وثائق ورقية “المنشأ” تمت “رقمنتها باستعمال تكنولوجيا الإعلام والاتصال (حواسيب، ماسحات ضوئية ..)، و”الأرشيف الإلكترونية” (وثائق أرشيفية “إلكترونية” المنشأ)، وتنويرا للرؤية، نؤكد أن المغرب، واجه الجائحة كغيره من الدول، عبر إمكانيات وقدرات ذاتية عاكسة لقرارات متعددة المستويات، تم تصريفها في شكل وثائق “إلكترونية خالصة”، أو عبر جملة من القنوات والآليات ذات الطابع الإلكتروني، تباينت بين البوابات والتطبيقات الإلكترونية، من قبيل : بوابة كوفيد للدعم المؤقت للأسر العاملة في القطاع غير المهيكل المتضـررة من فيروس كورونا (www.tadamoncovid.ma))، بوابة الضمان الاجتماعي ( covide19.cnss.ma )، إطلاق تطبيق معلوماتي لضبط مخالفي “حالة الطوارئ الصحية”، إطلاق بوابة إلكترونية ( Covid.dgsn.gov.ma ) موجهة للتواصل مع المواطنين ومصالح الأمن الوطني، حول الممارسات والتصرفات ذات الصلة بخرق مقتضيات حالة الطوارئ الصحية، تنزيل تطبيق “وقايتي” للحد من انتشار وباء كورونا، منصة إيــداع شكاية عدم التوصل بالدعم (شكايتنا)، تطبيق “وقايتنا” لتتبــع المصابين (wiqayatna) … إلخ.

وارتباطا بالتدبير اليومي للجائحة من قبل السلطات العمومية، راهنت مجموعة من الإدارات العمومية على خيار “الرقمنة” تفاديا لكل المخاطر الصحية المحتملة، ومنها “القضاء” الذي شهد ثــورة “غير مسبوقة”، بانخراط محاكم المملكة في تقنية “المحاكمة عن بعد”، وفي هذا الصدد، نشير إلى ما سبق أن صرح به السيد مصطفى فارس – الرئيس الأول لمحكمة النقض والرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية – في كلمة ألقاها بمناسبة انعقاد أول اجتماع مباشر للمجلس الأعلى للسلطة القضائية منذ فرض حالة الطوارئ الصحية، أكد من خلالها أن “المحكمة الرقمية خيار استراتيجي لا محيد عنه في المستقبل القريب”، مشيرا إلى تحقيق حصيلة إيجابية ومؤشرات رقمية وتقنية (ما بين 27 أبريل و 29 ماي 2020)، إذ تم تسجيل (1469) جلسة “عن بعد”، أدرجت خلالها (22.268) قضية، وتم البت في (9035) منها، وهي قضايا استفاد منها ما مجموعه (24.926) معتقلا، وافقــوا على محاكمتهم عن بعد، دون الحاجة إلى نقلهم إلى مقــرات المحاكم، وكلها ممارسات “رقمية” برزت بقوة خــلال هذه الظرفية الخاصة والاستثنائية، وانعكسـت بشكل مباشر على “الأرشفـة”، من منطلق أن كل ما أنتج أو كون من قبل الإدارات خلال هذه الظرفية الخاصة والاستثنائية، هو “ممارسة أرشيفية”:

و قد يصعب في الوقت الراهن تشخيص واقع حال الممارسة الأرشيفية في ظل استمرارية الجائحة وما تقتضيه من تدبير يومي لتداعياتها وآثارها على عدد من القطاعات، لكن بالمقابل، يمكن الإشارة إلى أن هذه التصرفات “الإلكترونية” المتعددة الزوايا، أفرزت وتفرز زخما من الوثائق الأرشيفية ذات الطابع الإلكتروني، وهذا الخيار، بالقدر ما أتاح للدولة والمؤسسات العامة والخاصة، فرصا لصناعة القرارات وتيسير سبل تنزيلها وترجمتها على أرض الواقع في إطار من السرعة والسلاسة والشفافية وتقريب الخدمات، وجعلنا نستشعر أننا أمام “ثورة رقمية” آخذة في التشكل في مجال “الأرشفـة”، بالقدر ما نجازف في وضعه “تحت المجهر” لاعتبارات ثلاثـة:

أولهما: غياب ثقافة لتدبير “الأرشيف الإلكترونية” في ظل واقع ممارسة (سياسي، إداري، اقتصادي، تعليمي، أمني، قضائي، تشريعي …) يتأسس بشكل كبير على “الأرشيف التقليدية” (الورقية).

ثانيها: الإدراك أن اللجوء إلى “الخيار الإلكتروني” ما كان له أن يحضر بهذه القوة، لولا الجائحة “الكورونيـــة”، بمعنى آخر، يمكن الإقرار أنه لم يكن هناك استعداد مسبق لا مادي ولا بشري ولا تقني ولا حتى نفسي، لاحتضان هذا النمط من الأرشيف.

ثالثها: إمكانية تجاهل أو تهميش “الأرشفة” عموما، خاصة “الإلكترونية”، في ظل تركيز البوصلة بأكملها نحو الجوانب التدبيرية اليومية للجائحة، وسبل مواجهة تداعياتها الآنية والمستقبلية.

ونعزز هذه الاعتبارات، بالإشارة إلى أن القانون رقم 69.99 المتعلق بالأرشيف (30 نوفمبر2007)، خاطب بشكل أساسي “الأرشيف التقليدية” (الورقية)، ودليلنا في ذلك، أن المشرع الأرشيفي، لم يشر إلى “الأرشيف الإلكترونية”، إلا في مناسبتين، بعدما طالب الهيئات المنتجة للأرشيف “الورقية” (الوسيطة، والنهائية) بحماية وحفظ ما تنتج من أرشيف بشكل تدريجي في شكل “أرشيف إلكترونية” (المادتان 8 و11)، بمعنى أن “الأصل” هو “الورقي” و”الاستثناء” هو “الالكتروني”، وهذه “المطالبة” في حد ذاتها، تبقى فاقدة لطابـع “الإلزام” ومتحررة من أي “ضابط زمني” و من أي إلزام بوضع جداول محينة للحفظ، تحـدد آجال حفظ الأرشيف العادية والأرشيف الوسيطة ومآلها “النهائي” على غرار “الأرشيف التقليدية” (الورقية).

وفي هذا الإطار، واعتبارا لما تمت الإشارة إليه، وفي ظل غياب “البيئة المناسبة” (الإطار القانوني “الإلكتروني”، دليل مرجعي لحفظ وتدبير “الأرشيف الإلكترونية، غياب بنيات إدارية وبشرية متخصصة في تدبير هذا النمط من الوثائق الأرشيفية (الإلكترونية) التي تقتضي أدوات ووسائل ومنهجيات عمل خاصة، قياسا للأرشيف التقليدية (الورقية) …)، يصعب في الوقت الراهن (في زمن الجائحة) تشخيص واقع حال الممارسة الأرشيفية الإلكترونية، والذي يحتاج لدراسة ميدانية تطال الإدارات المركزية التي تحملت مسؤولية اتخاذ القرار، لكن بالمقابل، نكاد نجزم، أن “الممارسة الأرشيفية الإلكترونية، ستكون حاملة لمفردات الارتباك والتيهان، لفجائية الجائحة، ولغياب الإطار القانوني (الإلكتروني) والضابط التنظيمي.

وفي جميع الحالات، لابد من التنصيص على أهمية وقيمة ما ستخلفه الجائحة من تراث أرشيفي متعدد الزوايا، فهو”قيمة علمية”، تسائل مجموعة من العلوم والحقول المعرفية (التاريخ، علم الاجتماع، علم النفس، الاقتصاد، القانون، الطب، علم السياسة (العلاقات الدولية أساسا) ..)، في ظل جائحة أربكت كل العالم بشماله وجنوبه وشرقه وغربه، تداعياتها لا تسائل الراهن فحسب، بل تسائل أيضا التاريخ البشري في مدخل الأزمات والنكبات والمحن والحوادث والكوارث الفجائية، كما تسائل المستقبل، وما قد يحمله من متغيرات عالمية وإقليمية ووطنية، و”قيمة تراثية” حاملة لأبعاد وطنية وعالمية، من شأنها تدعيم ما راكمته الشعوب والمجتمعات عبر تاريخها الطويل، من تجارب وخبرات ذات صلة بالأوبئة الفتاكة والأمراض المعدية والمجاعات والحروب والكوارث الطبيعية الفجائية وكل أشكال المخاطر والأزمات، بشكل قد يمنح دول العالم، نوعا من المناعة والجاهزية، للتصدي لمختلف المخاطر المحتملة، و”قيمة حداثية وحقوقية”: تتيــح الإمكانية – في إطار الحق في المعلومة – لمساءلة القرارات المتخذة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية والأمنية والقضائية والقانونية والإعلامية وغيرها، في إطار مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، كما تتيح الإمكانية أمام الدولة والمواطن لإثبات حق من الحقوق أو لتبرير اتخاذ قرار من القرارات، و “قيمة استراتيجية”، على اعتبار أن كل ما اتخذ من قرارات، أتاح نوعا من التراكم على مستوى الخبرات والتجارب فيما يتعلق بمواجهة الأزمات والنكبات والمخاطر والتكيف مع طقوسها، بالنسبة للدولة والمجتمع والمواطن.

وهو طابع استراتيجي يدخل في صميم عمل “مؤسسة أرشيف المغرب” التي صنفت منذ سنــة 2012 ضمن قائمة المؤسسات العمومية “ذات الطابع الاستراتيجي” لما رسمه لها المشرع الأرشيفي من أدوار وصلاحيات متعددة المستويات، تجعل عملها خارج “الزمن الحكومي” و خارج “البرامج الحكومية”، وهو “بعد استراتيجي”، يقتضي استثمار كل ما تم إنتاجه أو تكوينه خلال هذه الجائحة، من وثائق أرشيفية (ورقية وإلكترونية)، كما يقتضي تشخيصا موضوعيا لما تم اتخاذه من قرارات، في أفق إرساء منظومةتوقعيــة استشرافية، خاصة بتدبيــر الأزمات والمخاطر والحوادث الفجائية، بشكل يسمح لنا، بالتوجه نحو المستقبل بثقـة وشجاعة وثبات، لكن تحقيق هذا المسعى الذي لا محيد عنه، يمر أولا، عبر حسن تنظيم ما أنتج من أرشيفات، ويمر ثانيا، عبر مــدى الاستفادة من الجائحة العنيدة، وما أبانت عنه من دروس وعبـر، لا مناص من التقاط إشاراتها، لتجويــد، ممارساتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والأمنية والقضائية والثقافية والتنموية وغيرهـا، وهي جائحة، فرضت على مؤسسات الأرشيف عبر العالم، التواجد “وجها لوجه” أمام “محدد كرونولوجي”(وباء كورونا)، بالقدر ما أربك العالم وبعثر الأوراق وفرض تغيير وسائل ومناهج العمل والتواصل عبر الاستنجادبالرقمنــة، بالقدر ما زحزح “قارات” المنظومات الأرشيفية بالعالم، وغير ملامح “الأرشفة” في ظل الإقبال غير المسبوق على تكنولوجيا الإعلام والاتصال، وهذا يجعل هذه المؤسسات الأرشيفية أمام تحديين اثنيـن:

– أولهما: الاستعداد لاستقبال أنماط جديدة من الأرشيفات أو على الأقل “غير مألوفة”، ويتعلق الأمر بالأرشيف “الإلكترونية” التي تسير في اتجاه سحب البساط من تحت أقدام “الورقية”، وهذا يفرض إعادة النظر في النصوص القانونية والتنظيمية.

– ثانيهما: مواكبة وتتبع ما ينتج أو يكون داخل الإدارات من وثائق أرشيفية إلكترونية، من باب التوعية والتحسيس أولا، ومن باب تقديم الخبرة والمشــورة، بخصوص شروط وضوابط ووسائل حفظ وتنظيم هذا النمط من الأرشيف، بشكل ييـسر عمليات الولوج إليها والاطلاع عليها واستثمار معطياتها.

وقياسا للبعد العالمي للجائحة، فالمنظومات الأرشيفية عبر العالم، مطالبة بتفعيل آليات التعاون والتشاور والتنسيق وتبادل الخبرات والتجارب، واستعجال إطلاق نداء موجه لرؤساء الدول والحكومات عبر العالم، بقصد التوعية بحساسية الظرفية الخاصة والاستثنائية التي تمر منها الإنسانية، والتحسيس بأهمية التدبير الناجع والأمثل لما يكون وينتج داخل الإدارات من وثائق أرشيفيـة ليس فقط كذاكرة للعالم، ولكن أيضا، كقاعدة بيانات عالمية، يمكن استثمار معطياتها وأرقامها لمواجهة المستقبل حرصا على الأمن الصحي في أبعاده الوطنية والدولية، بل أكثر من ذلك، فهذه المنظومات الأرشيفية، من المفروض أن تكون قريبة من صانعي القرار لتقديم “الخبرة الأرشيفية” في حينها، تفاديا لأي ارتباك محتمل على مستوى التنظيم والحفظ، خاصة في ظل البروز القوي للوثيقة “الإلكترونية” في ظل الإقبال “غير المسبوق” على ”الرقمنــة”، وهي وثيقة يحتاج حفظها إلى ذوي الاختصاص (مؤسسات الأرشيف).

بخصوص “مؤسسة أرشيف المغرب” باعتبارها الذراع القانونية والمؤسساتية لأرشيف المغرب، نرى أن الظرفية تفرض عليها التحرك وفق ما هو متاح من الوسائل، لإثارة الانتباه إلى “القيمة الاستراتيجية” لكل ما ينتج أو يكون من وثائق أرشيفية في ظل هذه الظرفية الاستثنائية، والتحسيس بأهمية التدبير الأمثل لهذا التراث الأرشيفي “الاستثنائي”، وفي هذا الإطار، نطالب الحكومة باستعجال إشراك “أرشيف المغرب” فيما ينتج ويكون داخل الإدارات من وثائق أرشيفيـة، من باب تقديم المشـورة والخبرة الضرورية على مستويات الحفظ، خاصة في ظل البروز القوي للأرشيف “الالكترونية”، وهي فرصة لنؤكــد أن الجائحة الكورونية، أفرزت أو بصدد إفراز رصيد أرشيفي “نوعي”(خاص بالجائحة)، وهذا قد يشكل قوة دافعة لخلق رصيد أرشيفي وطني خاص بالأوبئة الفتاكة والأمراض المعدية والكوارث الطبيعية والمخاطر والأزمات على مستوى “أرشيف المغرب”، وهو رصيد أرشيفي، يقتضي ليس فقط عناية خاصة، بل ومقاربــة خاصة على مستوى الحفظ، حتى لا يبقى مشتتا بين الإدارات التي صنعت القرارات، وأية مبادرة في هذا الشأن من قبل “أرشيف المغرب”، لابد أن تكون معززة بسند حكومي وتحديدا من رئاسة الحكومة، حتى تكتسب خاصية الإلزام.

واعتبارا لما نعاينه من تحولات رقمية كباحثين ومهتمين بالشأن الأرشيفي، نجازف في التأكيد أن ثورة رقمية ناعمة بصدد التشكل في مجـال الأرشفة، في ظل الإقبال غير المسبوق على تكنولوجيا الإعلام والاتصال التي أثبتت نجاعتها في زمن الأزمات والنكبات، وهذه الثورة الرقمية، لابد أن يوازيها استعجال تنزيل حزمة من التدابير والإجــراءات، منها :

– جائحة كورونا، أبانت بجلاء أن القانون رقم 69.99 المتعلق بالأرشيف الذي مرت عليه حوالي 13 سنة، بات “متجاوزا” لعدة اعتبارا قياسا للمتغيرات التشريعية التي شهدها المغرب عقب إصدار هذا القانون، ونخص بالذكر: إصدار دستــور جديد، الشروع في تنزيل مقتضيات ورش الجهوية المتقدمة، إصدار ميثاق اللاتمركز الإداري، وقد تعمقت “بؤرة التجاوز” ببروز ممارسات أرشيفية “الكترونية” غير مألوفة، في ظل الإقبال غير المسبوق على تكنولوجيا الإعلام والاتصال، وهذا يقتضي استعجال فتح نقاش متعدد المستويات بخصوص القانون الأرشيفي ومرسومه التطبيقي، من باب التعديل والتحيين، حتى يكــون مستوعبا للمتغيرات التشريعية والرقمية.

– الحكومة، أطلقت العنان للعمل “عن بعد” الذي بات في الوقت الراهن، إحدى وسائل مواجهة الفيروس التاجي، مما سيرفع من منسوب الإنتاج الأرشيفي “الرقمي” و”الإلكتروني”، وهذا يضعنا أمام إدارة “رقمية”، تقتضي مواكبتها وتأطيرها قانونيا، وعليه، فقد بات تحيين “التشريع الأرشيفي” أمرا لا محيد عنه، إن لم نقل “ضــرورة قصوى”، لإرساء “بيئة قانونية وتنظيمية” قادرة على احتضان الممارسات الأرشيفية الجديدة.

– الإقبال على إنتاج الأرشيف “الرقمية، والإلكترونية”، يفــرض إثارة المخالفات الماسة بهذا النوع من الأرشيف والتي تختلف قطعا عن المخالفات المرتكبة في حق الأرشيف التقليدية (الورقية) من سرقة وإتلاف واختلاس وتسبب في الإضرار، والتي تطرقت إليها وإلى عقوباتها المواد 35و36و37 من قانون الأرشيف، كما يفرض إثارة “معاينة” مخالفات هذه الأنماط الجديدة من الأرشيف، لأن معاينة المخالفة الماسة بالورقي، تختلف قطعا بتلك الماسة بالرقمي والالكتروني، ومساءلة مدى أهلية الجهات المخول لها قانونا معاينة المخالفات الأرشيفية، ونخص بالذكر ضباط الشرطة القضائية بحكم الاختصاص العام، والأعوان المؤهلين لذلك من قبل “أرشيف المغرب”، وهذا يعد مبررا آخر، يستعجل “تحييـــن التشريع الأرشيفي” الذي لابد له أن يستوعب ما تمت الإشارة إليه من متغيرات، بما في ذلك متغير “الجهوية المتقدمة” الذي يفرض تملك ثقافـة “الأرشيف عن قرب”، عبر آلية خلق “مراكز جهوية للأرشيف” لتخفيف الضغط على المؤسسة الأم (أرشيف المغرب) وتثمين التراث الأرشيفي الجهوي، بالإبقاء عليه بين أحضان البيئة التي أنتجته.

– موازاة مع ضرورات تحيين الإطار التشريعي، و بما أن “الرقمنة” باتت تنافس بقـوة “الورقي”، بل وتهدد مستقبلـه في مستقبل السنوات، لا مناص لمؤسسة “أرشيف المغرب” من تعزيز حضورها على المستوى الافتراضي، بالتفكير في السبل الممكنة والمتاحة لخلق بوابـة إلكترونية متعددة الخدمات (الاطلاع على وثائق أرشيفية عن قرب دون الحاجة للتنقل إلى مقر المؤسسة، عرض محتويات رقمية (أشرطة تربوية، تاريخية …)، رقمنة المعارض التي تنظم برواق المؤسسة لتقريبها من عموم الجمهور، عرض النـدوات والأنشطة، عرض النصوص القانونية والتنظيمية، عرض منجزات المؤسسة، رقمنة الوثائق الورقية التي يتيح القانون حق الاطــلاع عليها، التواصل مع الإدارات، الإعــلان عن المباريات ومواعيد ما تنظمه المؤسسة من أنشطة على امتداد السنـة، التعريف بما يتم إبرامه من اتفاقيات الشراكة والتعاون … إلخ.

وقبل الختم، نشير إلى أن “مؤسسة أرشيف المغرب”، قد أوقفت – ابتداء من 16 مارس الماضي وحتى إشعار آخر- جميع التظاهرات الثقافية والعلمية وخدمات قاعة المطالعة و رواق الأرشيــف، في إطار التدابير الاحترازية للحد من انتشار الفيروس التاجي “كوفيد – 19″، مما حال دون تقديم أنشطة مواكبة للحدث، من شأنها الكشف عن حصيلة ما تحقق من مكاسب ومنجزات خلال سنة بأكملها، لكن هذا لا يمنع من الإشـارة إلى أن المؤسسة، قد أعطيت انطلاقتها الرسمية أواخر شهر ماي 2011، وقد خرجت الولادة العسيرة من رحم المعاناة، لاعتبارين اثنين، أولهما: حالة الفراغ التشريعي والتنظيمي التي سادت المشهد الأرشيفي منذ الاستقلال، وثانيهما: الانطلاقة بأية بناية “مؤهلة” وأي “طاقم بشري” لتسييرها، ماعدا “مدير” (الأستاذ جامع بيضا) وجد نفسه وجها لوجه أمام “مولود” أرشيفي ربما ولد قبل الأوان، ولم يكن أمامه – وقتها – سوى الاحتضان، فكان “تأهيل المقر المؤقت”(جناح قديم من المكتبة العامة) بفضل “منحة” من الاتحاد الأوربي – تولى تدبيرها المجلس الوطني لحقوق الإنسان – (ثلاثة ملايين درهم)، وقد أتاح التأهيل، توفير الحدود الدنيا لممارسة العمل في ظروف لائقة (مكاتب، قسم معالجة الأرشيف، ستة (6) مخازن لحفظ الأرشيف، قاعة متعــددة الاستعمالات (100 مقعد)، موازاة مع توفير الموارد البشرية، وفي هذا الصدد، انطلقت المؤسسة بستة (6) مستخدمين سنة 2011، وتطور حصيصها بشكل “سلحفاتي” إلى أن وصل إلى واحد وخمسين (51) مستخدما سنة 2019.

ورغم العمر القصير وضعف ومحدودية الإمكانيات المادية والبشرية، استطاعت المؤسسة أن تحقق عدة مكاسب ومنجزات متعددة المستويات، ذات أبعاد أرشيفية صرفة (إنجاز دراسة سنة 2017 حول واقع الأرشيف والممارسة الأرشيفية بالإدارات المركزية للدولة، إصدار الدليل المرجعي لتدبير الأرشيف العمومي سنة 2017، تقديم الخبـرة لعدد من الإدارات، إصدار مجلة أرشيف المغرب، تسلم العديد من الأرصدة ذات الصلة بعدد من المؤسسات والهيئات العامة والخاصة (أرشيف هيئة الإنصاف والمصالحة نموذجا) والأرشيفات الخاصة بعدد من رجالات الفكر والثقافة والإعلام والفن، إصدار دليل الموظف في التعامل مع الأرشيف العمومي …) وأبعاد تواصلية وإشعاعية (الانخراط في جملة من اتفاقيات الشراكة والتعاون مع عدد من المؤسسات والهيئات الوطنية والدولية، حضور وازن للمؤسسة في شخص مديرها “جامع بيضا” في المشهدين الإعلامي والثقافي (حضور برامج تلفزية وإذاعية، حضور فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء، المشاركة في فعاليات معرض الكتاب ببروكسيل (بلجيكا) غضون شهر مارس الماضي الذي حضر فيه المغرب كضيف شرف، تنظيم عدة ندوات ومعارض برواق المؤسسة، استقبال العديد من الوفود الأجنبية، استقبال زيارات مؤطرة لعدد من المؤسسات التربوية … إلخ) وغير ذلك من المكاسب والمنجزات.

ونختم بالقول أن “مؤسسة أرشيف المغرب” ألبست جلبابا قصيرا وضيقا، قياسا لما سطره لها المشرع الأرشيفي من مهام وصلاحيات وتدخلاتمتعددة المستويات، وبالقدر ما نثمن منحها صفة “المؤسسة الاستراتيجية” سنة 2012، بالقدر ما نجازف في القول، أن “الاستراتيجية” تفرض تمكين المؤسسة من مقر (بناية) لائق بمواصفات معمارية حديثة، تستجيب للمواصفات الدولية ذات الصلة بحفظ الأرشيف، كما تفرض تعزيزها المستدام بالموارد المادية والبشرية واللوجستية، حتى تضطلع بأدوارها الاستراتيجية المتعددة الزوايا، وترتقي بواقع الممارسة الأرشيفية، وإذا كانت “كورونا” قد حركت المياه الراكدة لعدد من القطاعات، وجعلت من التغيير ضرورة ملحة لمواجهة المستقبل، فنــرى أن الفرصة سانحة، لإعادة الاعتبار لمؤسســة عمومية، لا تحمل من “الاستراتيجية” ســوى الاسـم أو الصفـة، عسى أن تتزحزح قارة “أرشيف المغرب” لتواكب التحولات الرقمية وما تطرحه من تحديات آنيـة ومستقبلية، ففي زمن الأزمات، ينبثق الخلق ويتجلى الإبـداع وتحدث التغيرات …

* أستاذ، باحث في قضايا الأرشيف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • مهتمه ارشيفية
    منذ 3 سنوات

    موضوع شيق يرجى ارسال بريدكم الالكتروني حى يتم التواصل معكم