وجهة نظر

أزمة تناول المادة التاريخية من وجهة نقدية

إن تناول النقد التاريخي من زاوية ضيقة لا يستجيب للضرورات الملحة التي يتطلبها النقد المعاصر، بل إنه يعرض العمليات النقدية للارتباك، لذلك فلِكي يرسم الناقد خطى التأهيل النقدي عليه أن يدخل غمار نقد النقد وتصحيح العلاقة التفاعلية التي تعرضها النصوص دون انحياز ولا انزياح، لأن ما تحتويه المادة التاريخية من دينامية تاريخية، وقدرة على التفاعل بحسب ذائقة أي عصر من العصور، وما يفرضه التقدم الاجتماعي والتقني في المسار التاريخي، وما تشكله المدونات القديمة، كلها تشكل محددات لها موقعها الخاص ضمن أنظمة التفاعلات التي يولدها كل نص في ذاته؛ وهي لم تعد قيد الأزمنة التي نشأت فيها. ومن تم وجب التخلي عن التصورات القديمة والأخذ بمبدأ تحديد المقاصد لكل زمن في شمولية كبيرة وفي ارتباط بكل المكونات التي تتداخل معها كل الخطابات، وإدخال بعض المفاهيم المعاصرة الخاصة بنقد النقد التاريخي. فإذا كان النقد التاريخي العربي القديم يضم في ذاته عدة معطيات؛ فإن تمة هناك تطور في مختلف الاتجاهات النقدية في الوقت المعاصر مع انفتاح دائرة التاريخ، وهو تطور نتج عنه انفصال في العمليات النقدية، ونضج معه النقد التاريخي ليبلغ مرحلة نقد النقد التاريخي، والآن وجب تغيير مساره للحصول على تغيير في النتائج وتجاوز أزمة التناول. ومن تم فإن انتقاد نقد النظرة التاريخية يحدث تغييرا جديدا يلامس تغييرا في القيمة التاريخية والقيمة النقدية؛

ويحقق تطورا مطردا في العمليات النقدية التاريخية في ارتباط وثيق بمختلف عمليات التحليل والمقاربة الزمنية والمعالجات التاريخية. ثم إن فطنة بعض النقاد المتخصصين في النقد التاريخي في ظل الانفتاح الجديد، قد يسهل من عملية تطوير متسارع في التصورات والرؤى ويتيح إمكانيات كبيرة للتفاعل بجدية مع النظرة النقدية التاريخية الجديدة، وهو ما قد تكون له تداعيات إيجابية، فيقوي من احتمالات تحصيل نتائج حقيقية حصيفة، ويؤكد هذه الهوية في الأثر النقدي التاريخي الجديد، باعتماد المعرفة البنائية لهذا النقد في جميع الاتجاهات المتصلة بالنصوص المتنوعة بشكل أنضج.

ويشكل النقد التاريخي عنصرا مهما وقوة أساسية في تثمين المادة التاريخية وإعطائها قيمتها الحقة، لأن بالنقد تتقوى المادة التاريخية وتكتسب موضوعيتها. فإذا كان التاريخ قد دخل طقوس الكتابات المتنوعة، وقلب المفاهيم السائدة من خلال توظيف أفكار، وثقافة، ومعرفة تنزاح بالمادة التاريخية عن الصواب، وتخلق أزمة تناول المادة التاريخية؛ فإنه في المقابل قد أُخضع للوعي وللنقد نسبيا، لتصحيح المسار وللتدليل على أن النقد يشكل إطارا موضوعيا، ويدلل على نسقية التاريخ، وعلى تطور مناهج النقد فيه، كما هو الشأن بالنسبة لتطور البحث، إذ تتم إعادة النظر حتما في أسس النقد التاريخي. ويعد هذا حيزا استمراريا لنسق التفاعل مع النقد التاريخي من حيث الممارسة، ومن حيث الجانب النظري، اعتبارا للملازمة القوية لتطور العلوم الإنسانية. فالعمليات النقدية المعاصرة تتيح للتاريخ أن يغوص في حقول نقد النقد في فضاءات مختلفة الاتجاهات التاريخية، لتصبح المضاربة حول جوهر نقد النقد وما يتم التوصل إليه من نتائج جديدة، وهو ما يتيح آنيا تجاوز التصورات القديمة وإعادة النظر في بنية النقد المتحكمة في الواقع الحالي للدراسات التاريخية، إلى بنية جديدة يشكل فيها النقد صيغة شاملة تضم كل المكونات العلمية والابستمولوجية ومختلف الدراسات التاريخية المعاصرة. ثم صنع مساحة نقدية تتجاوز حتى الواقع الآني بما يقدمه من دراسات لم تعد تتماشى مع الأفكار الجديدة للنقد من جهة، ولم تعد تستجيب للرؤى النقدية التي تتطلب النظرة الشمولية للنقد، واستحضار كل الإمكانات الضرورية للنقد، والحمولات الحضارية، والحمولات الثقافية، وموسوعية الناقد التي تشكل وعاء مهما لتمرير العمليات النقدية وتشكيل الرؤى التنظيرية والأسس التي يتألف منها العمل النقدي. وكل هذا يتطلب إعادة صياغة الرؤى النقدية للنقد التاريخي في إطار تحليل تاريخي نقدي يأخذ بعين الاعتبار المجال الثقافي والاجتماعي والسياسي، ويعنى بمشاريع نقدية ذات صيغ موسوعية تتقاطع مع كل الأجناس المتعلقة بالعلوم الأخرى، وبذلك يؤكد النقد مركزيته في نسق شامل ومتكامل ويؤكد وثوقية المادة النقدية. وبذلك يتم الانزياح بالنقد التاريخي إلى عموميته بموضوعية وحرص على إنتاج قاعدة نقدية تروم الحقيقة، بأبعاد ذات خصوصيات مستقاة من المحيط الخارجي، ولها القدرة على بلورة العملية النقدية إلى ممارسة موضوعية حقيقية. وهذا يتأتى برؤية الناقد ومدى وعيه والتزامه بصيغ الموازنة بين الحقيقة الذاتية ورؤيته كناقد، وبين هذا وذاك تظهر المادة التاريخية في بؤرة وجودية؛

إما تؤكد مؤهلات الناقد وتبين قدرته على اختراق المادة التاريخية وفق هذه المحددات، أو أنه لا يتوفر على مهارات وعلى أسس نقدية ولا على آليات النقد المعاصر الذي يستطيع أن يكشف العديد من الحقائق.

إن لهذه الموازنة في الوقت المعاصر دور كبير في بلوغ الحقائق النصية الثابتة. فالنصوص بغير هذا المعنى لا تخضع للتكافؤ نظرا للخصوصية الذاتية وعدم امتلاك الأدوات النقدية؛ ولأن النصوص تختلف وتتنوع، وكل نص يحتوي مضامين محددة؛ فإن ضرورة التكوين، وضرورة التخصص، وضرورة الارتباط بالأسس النقدية هو أمر ملح يفرض نفسه لبلوغ نتائج ذات حقائق موضوعية، وهو ما يفسر انصراف النقاد والمثقفين إلى المجالات الأخرى عموما بدل المجال النقدي التاريخي. علما أن النقد التاريخي يدخل حتما في مجال البحث العلمي ويجب مراعاته وتناوله وفق الأسس الموضوعية والصياغات النقدية المعاصرة، خاصة وأن العمل النقدي الآني قد استفاد من مختلف التحولات التي تتجاوز كل التصورات التاريخية القديمة، بل أكثر من ذلك أنه استفاد من تطور النتائج التي تمخضت عن البحث السيميائي واللساني وغير ذلك مما انعكس إيجابا على الرؤى النقدية التاريخية المعاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *