وجهة نظر

حزب العدالة والتنمية وضرورة التجديد

الأحزاب ظاهرة سياسية وجدت لتنظيم فئة من الناس ، تجمعهم أفكار تغييرية واحدة ، بهدف الوصول إلى السلطة ، تنجح في ذلك و تفشل تبعا للظروف السائدة ، و بدورها تخضع لمنطق التاريخ فيعتريها ما يعتري الظواهر الاجتماعية من تراجع و تكلس وجمود ، لذلك تحتاج دائما للتجديد في خطابها و تنظيماتها ووسائل عملها لتظل فاعلة في مجتمعها بشكل أفضل و لأطول فترة ممكنة.

حزب العدالة و التنمية المغربي ليس بدعا من القول ، فهو استطاع منذ سنة 1998 ، أن يحدث حيوية في المشهد السياسي الذي كان يعاني من الركود ، وكانت مواقفه السياسية و الاجتماعية و الثقافية مثار نقاشات مجتمعية واسعة ، طغت على الساحة الإعلامية ، جعلته يفرض وجوده على الجميع ، كما تمكن من تحقيق تطور إيجابي متدرج . متجاوزا مجموعة من الإكراهات والتعسفات في حقه ، و التي وصل بعضها إلى محاولة حله و إقصائه من المشهد بعد التفجيرات الإرهابية التي هزت الدار البيضاء سنة 2003 . ورغم ذلك حقق نتائج تصاعدية مع كل استحقاق انتخابي ، بلغت أوجها مع انتخابات التشريعية لسنة 2011 ، و التي جاءت في ظل ظروف استثنائية تمثلت في ثورات الربيع العربي التي وصلت شرارتها إلى المغرب فيما يعرف بمظاهرات 20 فبراير و التي تفاعل معها ملك البلاد بإيجابية عندما اقترح على الشعب التصويت على دستور جديد وسع من الهامش الديمقراطي في البلاد .

و قد استطاع الحزب الفوز بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية لما بعد الدستور الجديد ، مكنته من تشكيل الحكومة بزعامة أمينه العام عبد الاله بنكيران ، و الذي وجد نفسه أمام تحديين كبيرين عليه مواجهتهما :

أولهما : تدبير العمل الحكومي بما يحقق الحد الأدنى من طموحات الشعب المغربي الكثيرة ، في ظل وضع مؤسساتي ممانع لإنجاح التجربة ، ممثلة في الدولة العميقة أو بتعبير بنكيران قوى التحكم ، مستفيدة من زحف موجة الثورة المضادة بزعامة الامارات والسعودية على الدول التي نجحت فيها الثورات الشعبية و التي تمكنت من إنجاز انقلاب عسكري في مصر و كانت قاب قوسين من تكرار التجربة في تونس و ليبيا ، و صوبت سهامها نحو المغرب عبر أدواتها الإعلامية المرتبطة بها داخليا و كان الهدف طبعا إفشال تجربة التحول الديمقراطي في المغرب، و أفضل طريقة كانت أمامها هي وضع عراقيل أمام حكومة بنكيران لإفشالها وتصويرها أمام الشعب كأنها حكومة مصالح لا تختلف عن سابقاتها في شيء وهذا ما سيجعله يفقد الثقة بالعمل السياسي و من تم الديمقراطية ككل.. غير أن بنكيران استطاع بحنكته إفشال هذا المخطط ، من خلال تحقيق بعض الإنجازات ، لازالت مثار تنويه من طرف المغاربة حد الآن ، وتمكن من قلب السحر على الساحر حيث نجح في إقناع المغاربة من خلال خطابه التواصلي الاستثنائي بأنه يستطيع انجاز الكثير لكن قوى التحكم تمنعه من ذلك و بالتالي أصبح ظهر قوى التحكم مكشوفا أمام المغاربة.

ثانيهما : الحفاظ على حيوية الحزب لاعتباره قائدا للعملية الإصلاحية في البلاد وذلك عبر ضمان ديمومة دوره التعبوي و وظيفة التأطير السياسي للمغاربة , و الحق يقال أن الرجل نجح في ذلك نجاحا مبهرا ، باعتراف معارضيه قبل مؤيديه ، حيث تمكن من مصالحة المغاربة مع السياسة ، و أصبح النقاش السياسي حالة عامة تتم في كل مكان ، في المنازل و المقاهي و المحلات التجارية.. في المدن كما في القرى، التي كانت تعتبر مجالا جغرافيا لا يهتم بالسياسة ، فدخلت بدورها مجال النقاش فأصبح بنكيران السياسي الذي يتحدث بلسانهم … و أصبح الحزب في هذه الفترة يقود الحكومة و المعارضة في نفس الوقت ،في حالة غريبة لم يسبق أن عاشها المغرب من قبل ، يقود الحكومة باعتبار أمينه العام هو رئيسها و يقود المعارضة التي تواجه قوى التحكم الساعية لاستدامة حالة الاستبداد والفساد في المغرب و المصرة على الاستمرار في تسيير البلاد من وراء ستار .

و كانت النتيجة فوز كبير في الانتخابات التشريعية لسنة 2016 ، وهذا يعني أن المغاربة زكوا تجربة الحزب بقيادة بنكيران ومنحوه التفويض لقيادة العمل الحكومي من جديد ، غير أن قوى التحكم أو الدولة العميقة تمكنت من الالتفاف على الإرادة الشعبية من خلالا تحريك أدواتها الحزبية لعرقلة تشكيل الحكومة بقيادة عبد الاله بنكيران ، فيما يعرف بالبلوكاج و إقصائه من المشهد السياسي. و قد نجحوا في ذلك حيث تم الاستغناء عن بنكيران و تعويضه بالعثماني الذي تمكن من إنجاز تحالفه و لكن بشروط مجحفة جعلته غير قادر على المناورة كثيرا ، من هنا بدأت سلسة الأزمات في الحزب ، و يمكن تلخيصها على الشكل التالي :

الأزمة الأولى : تمثلت في طريقة تدبير الأمانة العامة الجديدة بقيادة العثماني لمفاوضات تشكيل الحكومة ، حيث خضع فيها لكل شروط الأحزاب التي سبق أن رفضها بنكيران ، و هذا ما أثار غضب القاعدة التي لم تكن قد استوعبت بعد عملية إقصاء بنكيران من المشهد السياسي ، فاعتبرت ذلك سوء تدبير من القيادة الجديدة لمرحلة حساسة من تاريخ المغرب ، فبدأت الفجوة بين القيادة و القاعدة في الظهور، لم تستطع خطوة الحوار الداخلي من ردمها .

الأزمة الثانية : طرح الحكومة لقانون إطار التعليم الذي قرر التخلي عن التعريب و العودة إلى فرنسته ، في تناقض صارخ مع المبادئ المؤسسة للحزب التي كانت تدعو إلى التعريب الشامل بتعريب التعليم العالي و كل المؤسسات الإدارية … وهذه الخطوة معروف أن قوى التحكم كانت وراءها لكن ظهور قيادات من الأمانة و العثماني نفسه في موقف المدافع عن هذا القانون جعل القاعدة ترى أن الحزب أصبح في حالة تناقض صريح بين أقواله و أفعاله في مسألة تتعلق بهوية البلاد لا مجال للمناورة فيها ، فوقع جفاء واضح بين القاعدة التي كانت تنتظر موقفا معارضا بدون مواربة من الأمانة العامة للقانون ، فإذا بها تزكيه ، من خلال موقفها الرمادي بدعوتها البرلمانيين للتصويت بالامتناع فيما يتعلق بنقطة لغة التعليم . فظهرت الأمانة العامة مجددا بمظهرالفاقد للبوصلة و ضعيفة ، غير قادرة على مواجهة التحديات التي تفرضها قوى التحكم ، و أنها حريصة على الإبقاء على التحالف الحكومي بأي ثمن ، فاتسعت بذلك الفجوة بشكل واسع بين القاعدة والقيادة .

الأزمة الثالثة : حول ملف حقوق الانسان الذي عرف تراجعا مخيفا في هذه الفترة سواء في تعامل الحكومة مع الأصوات المزعجة لقوى التحكم ، من الكتاب الصحفيين الذين اعتقل العديد منهم ، أو في تعاملها مع الحركات الاحتجاجية والتي اعتمدت البعد الأمني من خلالا الاعتقالات و المتابعات القضائية ، و ظهر للقاعدة أن العثماني أصبح عاجزا تماما عن التدخل في هذا الملف الذي أصبح تحت يد قوى التحكم تفعل به ما تشاء.

الأزمة الرابعة : تجلت بقوة مع جائحة كورونا حيث ظهر للجميع أن رئيس الحكومة تخلى عن صلاحياته كلها لصالح وزارة الداخلية ، التي أصبحت تفرض رؤيتها لتدبير الجائحة على الجميع ، و رئيس الحكومة لا يفعل شيئا سوى التوقيع بالعطف على قرارات وزير الداخلية ، فعاد المغرب في ظل الجائحة إلى نموذج الدولة المخزنية التي لا تؤمن إلا بالمنطق الأمني في التعامل مع مثل هذا الوضع ، متجاوزة السلطة المنتخبة الفاقدة للقدرة على الفعل بفعل تسلط السلطة المعينة على صلاحياتها . و بدل أن يتدخل العثماني من أجل تصحيح الوضع قام بتكريسه وتقنينه عندما أصدر مراسيم تمنح وزير الداخلية صلاحيات واسعة لتدخل دون الحاجة للرجوع إليه ، فكان أن استغل وزير الداخلية الوضع بإصدار مذكرات عديدة تلغي نهائيا أي دور للجماعات المحلية المنتخبة ، و تركيز جميع الصلاحيات في يد السلطة المعينة . وأما الأمانة العامة فلم تتدخل من أجل تصحيح الوضع بالضغط على الأمين العام من أجل التشبت بصلاحياته و التقليص من دور الداخلية ، و إنما اكتفت بتبرير الوضع تحت ذريعة ضرورة فرضتها الجائحة . هذا السلوك أكد للقاعدة بأن الأمانة العامة الحالية أصبحت في حالة جمود وكساد لا يرجى منها القيام بأي خطوة لإصلاح الوضع و إعادة سكة الحزب إلى مسارها الصريح بله مواجهة قوى التحكم ، فأصبح التنظيم في حالة شلل تام .

في هذه الظرفية الصعبة خرجت إلى العلن مبادرة النقد و التقييم ، التي كان وراءها أعضاء من شبيبة الحزب و ثمنتها بعض القيادات تدعو الى تجاوز هذا الوضع بعقد مؤتمر استثنائي ، يفرز قيادة جديدة تستطيع إصلاح الأعطاب التي عرفها الحزب و تعيد اللحمة بين الأمانة العامة و القاعدة ، كشرط للتأثير في المشهد السياسي الوطني بما يخدم عملية الإصلاح .

وليكون لهذا المؤتمر معنى فعليه طرح أطروحة جديدة تؤطر عمل الحزب للنقاش و المصادقة، أطروحة تضع الأصبع على مظاهر الخلل في بناء الدولة بدقة وتطرح الحلول المناسبة وعلى رأسها :

المظهر الأول : الخلل الأساسي الذي يواجه الدولة يتمثل في هيمنة الداخلية على القرار الحكومي وعلى التدبير المحلي ، فيجب وضع حد له لما يشكله من تهديد على الانتقال الديمقراطي و على التنمية الاقتصادية ، وذلك من خلال توسيع صلاحيات السلطة المنتخبة بحيث تصبح غير خاضعة للسلطة المعينة ( القائد ، الباشا ، العامل ، الوالي ، وزير الداخلية ) ، و هذا يعني سحب صلاحيات من السلطة المعينة وتحويلها إلى السلطة المنتخبة ، التي من المفترض أنها تتعرض للمحاسبة مع كل استحقاق انتخابي ، و بالتالي لتكون هذه المحاسبة معقولة فيجب أن تمارس صلاحياتها بشكل كامل ، هذا بالإضافة إلى توسيع صلاحيات رئيس الحكومة و على رأسها الاشراف الكامل على الطاقم الوزاري و المؤسسات العمومية…

المظهر الثاني : الخلل على مستوى حقوق الانسان و الذي شهدا تراجعا خطيرا في هذه الفترة . فيجب فتح هذا الملف للنقاش على مصراعيه ، من خلال التركيز على تجديد خطاب الحزب في هذا المجال ( الحقوق الفردية ، حرية الإعلام ، دور جمعيات حقوق الانسان …) ، و على طرح إجراءات محددة على مستوى التشريع تعزز حرية التعبير و تعزز الحماية القانونية للصحفيين والكتاب و تمنع استغلال القضاء في تلفيق التهم للكتاب و المعارضين ، وهذا يحيل إلى مسألة إصلاح القضاء كورش حيوي في البلاد يعتريه الخلل بشكل واضح و تنتشر فيه مظاهر فساد أصبحت على كل لسان ، و خاصة قرار فصل النيابة العامة عن وزارة العدل و التي ظهر عوارها في استغلالها لتصفية الحسابات مع الصحفيين المبدئيين .

المظهر الثالث : الخلل على مستوى الهوية بالتمكين للفرنسية على مستوى التعليم و الحياة العامة ، لذلك يجب وضع تصور واضح فيما يتعلق بالتعريب باتخاذ قرار ملزم للأمانة العامة الجديدة بالتراجع عن خطوة فرنسة التعريب مادام الأمر لازال في بدايته و العمل على تعريب التعليم في جميع مستوياته و تعريب باقي الإدارات و المؤسسات العمومية و الخاصة .. و الحسم في قضية الأمازيغية من ناحية الحرف باتخاذ قرار تبني الحرف العربي بدل تيفناغ و بالحسم في واحديتها أو تعدديتها حسب المعطى الواقعي و التاريخي ، و أخيرا الحسم في اللغة الثانية التي يجب اعتمادها في التعليم و هي الإنجليزية بدل الفرنسية …

و لتفعيل هذه الأطروحة على أرض الواقع يجب اتخاذ خطوة مهمة وهي انتخاب أمانة عامة جديدة تستطيع العودة بالحزب إلى وضعه الطبيعي باعتباره حزب يقود عملية الإصلاح السياسي، لا يمكنه التراجع عن ذلك و إن كلفه ذلك العودة إلى المعارضة . قيادة تستطيع أن تواجه قوى التحكم بكل الوسائل القانونية و السياسية المتاحة و تكون قادرة على تعبئة مناضليها للانخراط في عملية توعوية تشمل عموم الناس ، تهدف إلى إعادة الأمل للمواطن في السياسية . وذلك لن يتحقق إلا في وجود أمين عام تثق فيه الناس و يملك قدرات تواصلية خاصة تمكنه من إقناعهم بضرورة المشاركة السياسية المكثفة كحل وحيد لقطع الطريق أمام قوى التحكم ، التي تسعى جاهدة لتوجيه ضربة قاضية لما تبقى من الهامش الديمقراطي الذي فتح أثناء سياق الربيع العربي (آخر ابداعاتها في هذا الاطار محاولة وضع قانون انتخابي هدفه بلقنة المشهد السياسي بشكل واسع وحرمان حزب العدالة من الحصول على الأغلبية في البرلمان أو في المجالس المحلية ، و هذا ما سيجعل السلطات المعينة هي المتحكمة في المشهد من وراء ستار) . و ضرورة المرحلة تقتضي عودة عبد الاله بنكيران إلى الساحة كما تدعو إلى ذلك القاعدة وبعض قيادات الحزب و بعض النخب السياسية و الثقافية من تيارات مختلفة ، فهو الوحيد ، على الأقل في هذه الفترة ، الذي يملك تلك القدرة التواصلية .

و الأمر هنا لا يتعلق بظاهرة الشيخ والمريد المتحكمة في علاقة بنكيران بقاعدة عريضة من الحزب و إنما يتعلق بأولويات المرحلة ، وهي مواجهة قوى الردة والنكوص و توسيع مجال الانفتاح السياسي،

و هذا لن يتحقق إلا بانخراط واسع للجماهير في الشأن السياسي و المشاركة الفعالة في الانتخابات , و الرجل يملك تلك الكيمياء التي تفرض سحرها على المتلقي وتقنعه بضرورة مساهمته في إنقاذ البلاد من العودة إلى مربع الفساد والاستبداد ، و أن الحل لمشاكله لا يمكن أن تكون إلا في الديمقراطية الذي هو صانعها و ليس أحدا آخر .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *