وجهة نظر

مولات البيض..

جرت العادة في زمن الجوائح والأزمات والمحن، أن تحضر الإنسانية التي تجمعنا وتحضر معها قيم المحبة والأخوة والتعاون والتعاضد والرحمة والتضامن، وأن تتحرك القلوب الرحيمة وتترجل الأيادي البيضاء نحو الفئات الفقيرة والمعوزة لإحاطتها بما يلزم من الدعم والمساندة والمؤازرة، وهي القيم التي حضرت بقوة طيلة أطوار الحجر الصحي، حيث حضرت مشاهد التضامن في أكثر من مستوى، في إطار من المسؤولية والمواطنة، في محاولة للتصدي للأزمة الطارئة والتخفيف من تداعياتها المتعددة الزوايا خاصة على الفئات الفقيرة والمعوزة، وقد اتسعت دائرة التضامن، لتمتد إلى الأصدقاء والأشقاء الأفارقة في إطار المساعدات التي قدمت بتعليمات ملكية سامية لعدد من البلدان الإفريقية الشقيقة والصديقة، تعزيزا للصلات الإنسانية والتاريخية والتنموية والروحية التي تربط المغرب بعمقه الإفريقي.

وبقدر ما ثمنا هذا الزخم التضامني، بقدر ما نتأسف على قضية “مولات البيض” التي تمت متابعتها من قبل النيابة في حالة اعتقال، عقب مقاضاتها من طرف مشغلها “البرلماني”، على خلفية ضبطها وهي متحوزة ببضع بيضات لاتتجاوز “16” بيضة حسب ما هو متداول، وهي الواقعة التي كانت إحدى وحدات الإنتاج مسرحا لها بمنطقة الرحامنة، وتخصيص مقال لهذه النازلة “الغريبة” ليس من باب الترافع دفاعا عن العاملة الموجودة قيد الاعتقال من أجل خيانة الأمانة، ولا من أجل التطاول على سلطات القضاء الذي مال إلى طرح “المتابعة في حالة اعتقال” بدل “المتابعة في حالة سراح”، ولا حتى لإشهار صكوك الإدانة والاتهام في وجه “البرلماني”/ “مول البيض” الذي أصر على المتابعة والمقاضاة دفاعا عن “بيضه المسلوب”.

نقر أن النيابة العامة لها صلاحيات المتابعة في “حالة اعتقال” أو “حالة سراح” حسب قناعاتها الخاصة بناء على ظروف وملابسات كل واقعة، والبرلماني “مول البيض” له كامل الصلاحية في المتابعة أو التنازل، والضابطة القضائية التي وضعت اليد على القضية، لم تقم إلا بما تتطلبه الواقعة من إجراءات قانونية ومسطرية على ضوء ما أصدرته النيابة العامة من تعليمات شفوية بشأن النازلة، لكن وبقدر ما لايمكن المجازفة في الخوض في تفاصيل قضية معروضة أمام القضاء، بقدر ما نعطي لأنفسنا الحق في إدانة ما حدث، لاعتبارات عدة منها :

– أولها: لأننا نعيش في زمن جائحة عمقت جراح الفقراء والمحتاجين ووسعت من دائرة البؤس والهشاشة.
– ثانيها: لأن الظرفية تقتضي تملك قيم التعاون والرأفة والتعاضد والرحمة والتضامن.
– ثالثها: بالنظر إلى قيمة البيض المستولى عليه (16 بيضة) والذي لاتتجاوز قيمته الإجمالية “16” درهما أو أقل من ذلك، وهو مبلغ هزيل يصعب معه تقبل فعل “المقاضاة” وفعل “الاعتقال”.

إذا كانت النازلة قد كيفت قانونا في إطار خيانة الأمانة، فيمكن التساؤل عن السبب أو الأسباب التي دفعت هذه العاملة إلى وضع اليد على بيض مشغلها بعد إنهاء عملها، كما يمكن التساؤل عن ظروف اشتغالها ووضعيتها القانونية داخل الوحدة الإنتاجية المذكورة، ومن خلالها يمكن التساؤل عن واقع حال شرائح واسعة من العاملات والعمال الذين يشتغلون أساسا داخل وحدات الإنتاج وداخل الضيعات الفلاحية تحت رحمة “صحاب الشكارة” الذين يلهثون وراء جني الأرباح ومراكمة الثروات، فقد نتفق أن وضع اليد على “16 بيضة” هو جريمة في نظر القانون (خيانة الأمانة)، لكن الجريمة الحقيقية هي جريمة “الأنانية” و”السلطوية” و”العناد” و”انعدام الرحمة والشفقة” و”الجشع” و”الطمع” و”التعالي” و”الغطرسة” و”انعدام الإنسانية”.

قد نعاتب العاملة على استهداف “بيض مشغلها”، وقد نتفهم حق “المشغل”/”البرلماني” في المتابعة والمقاضاة، لكن وبين هذا وذاك، نؤاخذ “المشغل” على ما أقدم عليه من تصرف فاقد للحس الإنساني، خاصة ونحن نعيش زمن الجائحة التي تقتضي قيم التضامن والتعاضد والتعاون، وكان عليه أن يسلك “مسطرة الإنسانية” مراعاة للظرفية واعتبارا لقيمة البيض المستولى عليه (16 بيضة)، بالاستماع إلى المعنية والتثبت من الظروف التي جعلتها تقدم على ما أقدمت عليه، ومساعدتها عند الاقتضـاء، أو بالاستغناء عنها بعد تسليمها مستحقاتها المادية، كما أن وضعه كبرلماني، كان يفرض عليه التحلي بما يلزم من الحكمة والتبصر والتعقل والتضامن حرصا على وضع الاعتباري والسياسي، لكن كان له “رأي آخر” ترتب عنه وضع إنسانة بسيطة رهن الاعتقال من أجل “16” بيضة في زمن جائحة ليست كمثيلاتها.

في جميع الحالات، فقضية “مولات البيض” ما هي إلا مرآة عاكسة لمجتمع عصي على الفهم والإدراك، بقدر ما يحضر فيه التضامن والتعاضد والتعاون، بقدر ما تتعايش فيه مفردات التسلط والقسوة والجشع والطمع والأنانية المفرطة، وتغيب فيه قيم الرأفة والرحمة والتسامح، ومهما قيل أو قد يقال بخصوص النازلة في أبعادها القانونية والمسطرية، فمن الصعب تقبل فكرة اعتقال مواطنة بسيطة من أجل “بيضات” لاتتجاوز قيمتها “16” درهما، دون استحضار للأزمة الوبائية السائدة ودون تقدير لتداعيات فعل الاعتقال على المعنية بالأمر على المستويين النفسي والاجتماعي، وكما طبق القانون في هذه النازلة “المجهرية”، نأمل أن يطبق ذات القانون في جميع القضايا والنوازل “الكبيرة” بتجرد وموضوعية ونزاهة وحياد، خدمة لرسالة العدالة والمساواة وتجسيدا لدولة الحق والقانون، ونأمل أيضا، أن يكون القانون كالموت “لايستثني أحدا” كما قال الفيلسوف” مونتسكيو”، كما نأمل أن يتم استعجال الإفراج عن المعنية بالأمر في أقرب الآجال الممكنة، لأن الاعتقال في حد ذاته يعـد “قسوة” ربما تفوق قسوة الفقر والبؤس والهشاشة والحرمان والإقصاء، ونختم بالقول أن “البيض” عاد إلى الأحضان ومن كانت ترعاه ترقد خلف القضبان، وبين “الأحضان” و”القضبان” غاب “الضمير” ومات “الإنسان” …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *