مجتمع

الدلال.. سيد المزاد وجامع البيعين يفقد عرشا تربع عليه لقرون (فيديو)

على حافة الزوال (الحلقة الخامسة)

مهن ضاربة في القدم والعراقة. قبل عقود كان لها دور حيوي في بوادي وحواضر المغرب، وشكلت على مر السنين مصدرا لعيش الكثير من الأسر، لكنها اليوم تدحرجت نحو الهامش وشارفت على الاندثار، وصارت مهنا على حافة الزوال.

مخترقا الزحام وسط سوق المرقطان بقلب المدينة العتيقة فاس، يسبقه صوته معلنا ما وصل له سعر الجلباب الذي يحمله على كتفه؛ “ربعالاف وربعمية”. يستجيب فورا، باسطا طرف الجلباب على كفيه، كلما استوقفه مشتر، قبل أن تصدح حنجرته بالسعر الجديد، مواصلا طوافه بين الناس.

“الصلاة على النبي. البايع (البائع) يربح والشاري (المشتري) يربح ومن صلى على النبي يربح، راه الدلال ما يضمن (لا يضمن) ما يتخلص (لا يقبض) واللي مشا ليه شي ربي يخلف (من ضاع منه شيء فليعوضه الله)”، بهذه العبارات يصيح أمين الدلالين بسوق المرقطان، عبد الوهاب الصباغي، وهي بمثابة ميثاق شرف يفتتح به المزاد كل صباح.

يمارس الدلال عبد الإله الجماهري هذه الحرفة منذ ثلاثين عاما، إذ تعلمها على يد والده، الذي كان أمينا للدلالين بهذا السوق المعروف ببيع الأغراض والأواني والألبسة والأفرشة القديمة والمستعملة.

عندما يستلم الدلال السلعة من البائع بغرض البحث عن مشتر، يقصد أمين الدلالين ليحدد له ثمن الافتتاح، ثم يشرع في الطواف بين الناس في السوق مرددا الثمن بصوت مسموع، عارضا السلعة بين يديه، وكلما اقترح مشتر سعرا أعلى، ردده الدلال، إلى أن يستقر الثمن على رقم يرضاه البائع.

يحكي الجماهري لـ”العمق”، أن حرفة الدلالة تراجعت في هذه السوق مقارنة بحالها قبل عقود خلت، وحتى من يمتهنونها اليوم فإن جلهم لجأ إليها اضطرارا، “الناس اللي هنا ما عندهمش فين يمشيو، أنا عندي أربعة أبناء، والآن بعد منتصف النهار ما زلت لم أجن بعد درهما واحدا.. الحرفة ماتت، جات كورونا كملات علينا”.

كان هذا السوق فيما مضى يضج بصياح أكثر من 200 دلالا قبل أن يتقلص عددهم اليوم إلى 87، حوالي 40 منهم فقط من يمارسون عملهم بشكل منتظم، بحسب ما يحي عبد الوهاب الصباغي في حديث لـ”العمق”.

هذا الشيخ البالغ من العمر 77 عاما، الذي يحظى باحترام جميع الدلالين في هذا السوق، ولج بوابة هذه المهنة أول مرة سنة 1977، ومازال مخلصا لها إلى حدود اليوم، متحسرا على ما آل إليه حال ممارسيها.

يحكي الصباغي أنه مارس الدلالة في هذا السوق إلى جانب المئات من زملائه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، كما أن من بينهم من غير الحرفة أو تقاعد مضطرا، كما حصل لشخصين تخليا عنها إذعانا لرغبة أبنائهم الذين.

بعدما حصل الصباغي على شهادة “البروفي” قبل حوالي 60 سنة، لم يجد عملا يستقر فيه، فتنقل بين عدد من المهن، قبل أن يقترح عليه شخصان من معارفه ممارسة الدلالة في هذا السوق.

يتذكر هذا الشيخ السبعيني صعوبة الشروط التي خضع لها من أجل الاعتراف به أول مرة كدلال في السوق، قائلا إنه احتاج حينها إلى من يضمنه و12 شخصا ليشهدوا بمرؤته وأمانته.

يحاول الصباغي قدر الإمكان، بصفته أمينا للدلالين بالسوق، الحفاظ على نفس الأعراف والشروط للولوج إلى المهنة، ويعيب على الشباب إقبالهم عليها، “أقول للشباب بكل صراحة ماشي حرفتهم ما شي ديالهم”، موضحا أنها ليست حرفة للقادرين على العمل في مجالات أخرى، بل كانت ملجأ لكبار السن والحرفيين والتجار الذين كسدت تجارتهم وتعرضوا للإفلاس.

تصوير: سليم الحسوني_ مونتاج: ياسين السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *