أدب وفنون

“كفى احتقارا للغتنا”.. هيمنة الفرنسية على مهرجان طنجة تثير استياء النقاد والجمهور

وأنت تجلس في إحدى قاعات مهرجان الفيلم الوطني بطنجة، تتابع النقاشات التي تعقب العروض السينمائية أو الجلسات الفكرية الموازية، يخيل إليك لوهلة أنك في مهرجان دولي بباريس أو مارسيليا أو حتى في “كان”.

لغة موليير تملأ القاعة من المنصة إلى الجمهور، الأسئلة تُطرح بالفرنسية، والإجابات بالفرنسية، والمداخلات والتعقيبات كذلك، لتجد نفسك بعد انتهاء الجلسة تتذكر أنك في طنجة، شمال المملكة المغربية، في مهرجان وطني يفترض أنه مرآة للهوية المغربية وتعددها اللغوي والثقافي.

وأثار هذا المشهد المتكرر في الدورة الخامسة والعشرين من المهرجان الوطني للفيلم، التي تحتضنتها مدينة طنجة بين 17و25 أكتوبر 2025، استياء عدد من النقاد والمهنيين وحتى بعض الحاضرين الذين رأوا في هيمنة اللغة الفرنسية على النقاشات “انزياحا” عن روح المهرجان الوطني الذي يُفترض أن يحتفي بلغات البلاد وثقافتها قبل أي شيء آخر.

وتربعت اللغة الفرنسية على عرش الكلام، في قاعات النقاشات، مخرجون، نقاد، مقدمو الجلسات، وحتى بعض الممثلين، اختاروا التعبير عن آرائهم بلغة موليير، وكأن العربية ثقيلة على اللسان أو غير قادرة على حمل الخطاب السينمائي الحديث.

المفارقة أن هذه الجلسات كانت تناقش أفلاما مغربية، تتناول قضايا مغربية، ومصنوعة بأموال مغربية، لكنها تُناقش بلغة أجنبية لا يفهمها جزء معتبر من الحضور، ما جعل المهرجان فضاء فرنكفوني مغلق على نفسه، خاصة مع عدم توفير الترجمة الفورية، وكأن النقاش السينمائي لا يكتسب وجاهته إلا إذا صيغ بالفرنسية.

واعتبر عدد من المهتمين الحاضرين للمهرجان في تصريحات لـ”العمق”، أن هيمنة الفرنسية في مهرجان وطني ليست مجرد اختيار لغوي، بل تعبير عن أزمة ثقافة ووعي وهوية، مشيرين إلى أنه في الوقت الذي تتجه فيه دول كثيرة نحو ترسيخ لغاتها الوطنية في المهرجانات والمناسبات الفنية الكبرى، ما زال جزء من النخبة الثقافية المغربية يتعامل مع الفرنسية باعتبارها لغة “الشرعية الفنية” و”الوجاهة الفكرية”.

واستشهد ذات المصدر بتجارب أخرى عربية تقدم نموذجا مغايرا تماما منها مصر رغم حضور ضيوف أجانب في مهرجاناتها الدولية، تظل لغة النقاش الرسمية هي العربية واللهجة المصرية، ويُعتمد على الترجمة الفورية لتيسير التواصل.

وأشار مهتمون بالفن السابع، إلى أن ما يحدث في طنجة ليس حادثا معزولا، بل امتداد لظاهرة أوسع في المشهد الثقافي المغربي، فالفرنسية منذ عقود، تحولت في أذهان جزء من النخبة إلى لغة “الشرعية الفنية” و”التفكير الراقي”، وبذلك أصبح استعمالها في المهرجانات والمؤتمرات علامة على الانتماء إلى “نخبة” محددة، في مقابل نظرة دونية للعربية باعتبارها لغة لا تصلح للنقاش الجمالي والفكري.

وفي هذا السياق، عبر الناقد السينمائي أحمد سيجلماسي عن استغرابه من “الهيمنة الفرنكفونية” التي طبعت جلسات النقاش الصباحية بمهرجان طنجة، قائلا: إن المرء كان يشعر وكأنه في مهرجان فرنسي لا مغربي.

وتساءل الناقد بمرارة: “ألسنا في مهرجان وطني؟ وهل يعقل في مهرجان سينمائي فرنسي أن تُقصى اللغة الفرنسية لصالح لغة أجنبية؟”.

وأوضح سيجلماسي، أن المسألة تتجاوز الشكل إلى الجوهر، وأنها ليست مجرد لغة حوار، بل قضية كرامة ثقافية، مضيفا: “كفى احتقارا لنا ولغاتنا الوطنية ونحن في عقر دارنا”.

واعتبر ذات المتحدث، أنه حين تُقصى اللغتان الوطنيتان لصالح لغة مستعمر سابق، في قلب مهرجان وطني، فإن الأمر يصبح دلالة رمزية على أن الاستقلال اللغوي لم يتحقق بعد، وأننا ما زلنا نبحث عن أصواتنا في ألسنة غيرنا.

وتابع الناقد متسائلا: لماذا تُسند مهام تسيير الجلسات إلى أشخاص مفرنسين أو أجانب، بينما يزخر المغرب بإعلاميين ومثقفين قادرين على إدارة النقاشات بلباقة بالعربية أو الأمازيغية ويتقنون بعض اللغات الأجنبية؟.

وأردف: “ولماذا لم تعتمد إدارة المهرجان على الترجمة الفورية لتسهيل التواصل بين ضيوف المهرجان الأجانب (وهم قلة) والمغاربة (وهم الأغلبية الساحقة)؟.

من جهته، انتقد الناقد السينمائي فؤاد زويريق، بشدة استخدام اللغة الفرنسية في فعاليات الدورة الخامسة والعشرين للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة، واصفا هذا التوجه بـ”المستفز”، ومعتبرا أنه يمثل استمرارا لعُرف قديم مارسه المهرجان منذ سنوات.

وقال زويريق، إن اللجوء إلى الفرنسية في برامج وفقرات مهرجان يُفترض أنه وطني، يُعد مساسا بالهوية الثقافية واللغوية للمغرب، و”إهانة واضحة لكرامتنا اللغوية”، مشيرا إلى أن “الاحتفاء بالسينما الوطنية عبر لغة أجنبية، بينما تُهمش لغاتنا الرسمية والأصيلة، أمر غير مقبول وغير منطقي”.

وأشار الناقد، إلى أن تبرير هذا الأسلوب بذريعة الانفتاح أو التحديث لا أساس له، مؤكدا أن “الانفتاح لا يعني الذوبان، والتحديث لا يعني الانسلاخ عن الجذور الثقافية”.

واعتبر ذات المتحدث، أن استمرار اعتماد الفرنسية في مهرجان يُفترض أنه وطني، وكذلك في حوارات بعض الأفلام المغربية المدعومة من الدولة دون مبرر درامي، يعكس “جهلا بلغتنا وإهمالا للتراث اللغوي الغني والموروث الثقافي الذي ناضل أجدادنا للحفاظ عليه”.

وشدد زويريق، على أن احترام اللغة الوطنية ليس مجرد خيار شكلي، بل هو رمز للانتماء والهوية والذاكرة الجماعية، موضحا أن “اللغات الوطنية ليست أداة تواصل فحسب، بل جزء من كياننا الثقافي، ومن الواجب إعطاؤها مكانتها في كل تفاصيل المشهد السينمائي”.

ودعا الناقد السينمائي فؤاد زويريق، في حال استمرار هذا الوضع إلى تغير اسم الفعالية الثقافية إلى “المهرجان الفرنكوفوني للفيلم بطنجة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *