منوعات

عشيق الليدي شاترلي !

ظل ديفيد هربرت لورانس ينتظر نشر روايته “عشيق الليدي تشاترلي” طيلة 32 سنة (أي بعد وفاته بـ 30سنة)، قبل أن يُسمح بنشرها سنة 1960، وذلك على إثر صدور حكم قضائي يرى أن تلك الرواية لا تُشكل خطرا على أخلاق المجتمع، بعد أن كان كذلك لأكثر من ربع قرن.

والحال أن رواية “لورانس” لم تكن وحدها الممنوعة من النشر، بل إنه بموجب “قانون الفحش” البريطاني مُنعت العديد من الأعمال الأدبية مثل روايات “إميل زولا” و”جيمس جويس”، إلى أن صدر قانون المطبوعات الفاحشة سنة 1959، الذي جاء نتيجة للتطور الذهني للمجتمع، حيث أصبح المفهوم السائد هو أن الكتاب لا يجوز أن يُعامل كخارج عن القانون لمجرد أنه يحتوي على بعض الكلمات السوقية والأوصاف الجنسية الصريحة، شريطة أن يكون الكتاب ذا طابع جدي وإنه لا يهدف إلى نشر الفحش لدى نمط معين من القراء. (لويد: فكرة القانون).

يفيدنا هذا المدخل، في التذكير بأنه لا خصوصية في المنع والتضييق على الأعمال الفنية بمنطق أخلاقي أو محافظ، فأغلب المجتمعات، إن لم نقل كلها، قد مرّت من مرحلة التوجّس من الأعمال الأدبية والعلمية والفنية التي تحمل في طياتها جرعة زائدة من الإفصاح.

وإذا كانت العديد من الدول الغربية قد حسمت مع سياسة المنع والتضييق، فإن العقل الغربي لم يمضِ شيكا على بياض لكل من يريد أن يتقدم إليه بأعمال فنية، بل إنه غالبا لا يجازي إلا الأعمال الرصينة، وبهذا يتحول المنع القانوني إلى تقييم ذوقي وفني يقيد الحرية المطلقة لأهل الفن والسينما.

إذ على الفنان أو الأديب أن يراعي ذوق المتلقي قبل الإقبال على نشر إبداعه وسط العموم، وهذا الأمر ينطبق بشكل كبير على الأعمال السينمائية الواعية والهادفة التي تشكل نسبة كبيرة من الإنتاج العالمي (اليابان، إيطاليا، إيران، أمريكا…)، وتحصل على أحسن الجوائز.

فلكي تَلقى تقييما جيدا عليها أن تسعى إلى تقديم شيء جديد للمتلقي، أو تطرح أفكارا مستقبلية، أو تتضمن موضوعات تساعد على قيادة المجتمع وتطوير أدائه، أو تروي التاريخ داخل حبكة أدبية ماتعة، وفي إطار من الحرفية العالية، دون أن تتحول السينما إلى محاكاة للواقع أو الجري خلفه، مما يحولها إلى ما يشبه الكاميرات الخفية.

إذا كانت هذه هي الرؤية العامة للفن التي يؤيدها كاتب السطور، فإن هذا لا يعني أنها مُطلقة أو الوحيدة، بل إن النسبية تنتعش كثيرا في ما يتعلق بعالم الأذواق، لذلك ينبغي علينا إدراك حدود رؤيتنا لإنتاجات الغير، والحد من التصور الأحادي والأحكام المسبقة.

الأعمال السينمائية، لا ينبغي أن تُناقَش بمنطق الحلال والحرام، أو بمنطق أخلاقي صرف، لأن الفيلم السينمائي شأنه شأن أي عمل فني يجب أن يخضع لمعايير من داخله لا من خارجه، يجب أن يخضع للنقد الفني، ويُقيّم بمنطق الذوق والحس الفنيين.

أما إذا ارتكنا إلى عنصري الدين والأخلاق، فأكيد سنقع في التقاطع المحظور، ونشرع في تبادل الاتهامات دون أرضية حوارية مشتركة، ودون أن يفهم بعضنا منطلقات البعض الآخر.

شخصيا لا أجد لذاتي الفنية في الأعمال السينمائية التي تحاكي الواقع وتتحول إلى كاميرات خفية، أُفضل عليها الفيلم الوثائقي أو التقرير الصحفي الذي ينقل الواقع عن الفاعلين الحقيقيين. أما العمل السينمائي فأظن أنه ينبغي له الاجتهاد في معالجة الواقع أو العمل فيه من أجل تجاوزه لا محاكاته، وحتى المحاكاة ينبغي أن تتميز برؤية فنية.

كان “بابلو بيكاسو” يلح على أن “الفن يَمسح عن الروح غبار الحياة اليومية”، وهو نفس الطرح الذي طالما دافع عنه “جون كيج” بقوله “عندما نفصل الموسيقى عن الحياة نحصل على الفن”. كما أن من اللازم أن يتوقف الأمر عند النقد، والاستحسان؛ والاستهجان، والإشادة. أما أن يخرج عن هذا السياق ويتطور إلى المنع والتضييق والعنف والتكفير، فإن ذلك لا يمكن أن يكون مقبولا من كل ذي عقل سليم، أو بالنسبة للذين يدرسون التاريخ ويستخلصون العبر.

لأنه من الوهم الاعتقاد بأنه بغير النقد الفني والتعبير عن الامتعاض والشجب والتنديد والتنويه والتكريم، يمكن ترشيد الأعمال الفنية، ما دام القمع لن ينتج إلا المزيد من الإصرار، كما أن التاريخ لم يثبت أن اللجوء إلى المحاكم قد أوقف المسيرة، فكم من عمل أوقفته المحاكم بداية ما لبث أن تبادله الناس بشكل سري وأخرجوه من دائرة “المنع” إلى دائرة “السماح”.