وجهة نظر

بوح لا بد منه.. يا سادة، مدرستنا معطاءة

بوح لا بد منه. لا أدري لماذا هذا الوقت بالذات. لكنه إحساس يغشاني دائما. يا سادة !مدرستنا عظيمة. و عظمة مدرستنا و تميزها لا أنسبه، لما قد يعنُ لبعض الأفاضل من تميز في انتهاج منهج “وسطي” أخرج البلاد من الانسداد. كلا! فرادة مدرستنا ترجع إلى كونها كانت المحضن الأول –و مازالت- لمجموعة مُقدرة من الفاعلين؛ هي التي تساهم بقدر هام و جليل في تحريك المشهد المغربي الفسيح. دعونا من السياسة فمساهمة خريجي مدرستنا فيها لا يخفى حتى على الأطفال في الشارع. فالمقصود هنا –بالتأكيد- المشهد الثقافي و الفكري و الإعلامي و العلمي.

لا يهمُني أن يكون هؤلاء الفاعلون من الباقين أو المغادرين لقطار المدرسة. نعم، قد يكون بعضهم منتسبا حاليا إلى جوقة المتحاملين و الحاقدين. لكنه، على أية حال، موقف أخلاقي و الإنسان حر في نهاية المطاف. رغم أني، أُرجح كون التحامل و البغضاء أمر راجع غالبا لسلوكات غير أخلاقية أيضا نابعة من أبناء المدرسة الذين يتزيدون في الحرص عليها و الغيرة على مشروعها و يتوسلون إلى ذلك حدة في الخطاب.

نعم، إني أعتز حقا إن مدرستنا كانت يوما محضنا للدكتور عبد الرحيم العلام على سبيل المثال. واضح أن الرجل له مواقف مغايرة تماما لخط مدرستنا في المسألة السياسية و النظام السياسي بالأساس، و التي قد لا أتفق معها بدوري إجمالا لكني أسجل تعاطفا مع بعض جوانبها. لكن هذا لا ينفي أنه باحث شاب مقتدر و متمكن و واعد في الفكر السياسي و العلوم السياسية و حالة خاصة في العطاء غزا المنابر الإعلامية في زمن قياسي و آراءه بات يتلقفها الشباب الذي يشترك معه في الموقف من النظام السياسي. إن آراءه وأطاريحه، وهذا هو بيت القصيد، غنية و مطلوبة و الحاجة إليها قوية. لأن التاريخ لا يمكن أن يسير بل سيركد إذا قاده فقط و بارتياح أصحاب أطروحة المحافظة السياسية (أي المهادنة المطلقة مع النظام). لأنه لا مفر لنا من الملكية البرلمانية في يوم من الأيام.
إن المتتبع المدرك لمراكز الأبحاث و الدراسات السائدة في الوطن، لا شك أنه لن يخطئ كون جل القائمين عليها و المشتغلين في إطارها من الذين خرجوا من رحم مدرستنا. إنه لأمر يبعث على السرور بالنسبة للمنتسب الواسع الأفق الغيور على هذا الوطن المحبوب. أؤمن دائما أن الهام هو أن يكون الإنسان صادقا (أقصد الصدق في تحري الصواب: و هذا أمر لا يدريه إلا ربنا جل في عليائه) و جادا في بحثه. و ليقل ما يشاء، لأن الله حسيبي و حسيبه (على ما لا نعلمه).

إن الدكتور مصطفى بوهندي –على سبيل المثال كذلك- الذي اثارت آراؤه عجيجا و ضجيجا (لم يتيسر لي أن أقرأ له إلا كتاب “نحن و القرآن”) إن بوهندي؛ فخر لمدرستنا أنها كانت مأوى أسئلته الأولى. و الحركة الثقافية و العلمية، مرة أخرى، لن تتحرك في بلدنا إلا بوجود بوهندي و نقيضه؛ و ربما لنا الشرف أن نُخرجهما معا: و نحن حركة اجتماعية دورنا في هذا البعد هو تحريك المشهد و إدارة عجلة التاريخ. و أعجبُ للذي يضيق حنقا بوجود بوهندي و من على شاكلته (رغم أني لا أشايعهم): إن وجود بوهندي هو الذي خلق لك وجودا قوامه “التصدي لتشغيباته”!

جريدة مدرستنا (التجديد) أسهمت في تخريج كوكبة من الإعلاميين المتميزين (عليموسى، الكنبوري، حمودي،…) انتقلوا إلى الصحف الوطنية الكبرى (المساء، أخبار اليوم..). إنه لأمر يبعث على الاعتزاز بمدرستنا أيضا.

كبار المتصدين للشأن العلمي في بلدنا مروا من مدرستنا. قادة الرابطة المحمدية للعلماء (أحمد العبادي، عبد السلام الطويل..). رئيس جامعة القرويين ( الدكتور الروكي). المجلس العلمي الأعلى (المرحوم فريد الأنصاري، الدكتور مصطفى بنحمزة..). الشيخ الزمزمي والشيخ عبد الله نهاري؛ جميعا يساهمون في قلقلة أركان الخطاب الديني في بلدنا. لا يُهمني هنا التوقف على موقفي من آرائهم و مفارقاتها بقدر ما يؤرقني تقريب فكرة “كوننا مدرسة استثنائية” أبناء مدرستنا هم الذين يحركون الرأي العام الديني أيضا.

كثيرون هم أبناء مدرستنا (سواء الأوفياء أو العاقين: ربما كانوا ضحية لسلوك غير أخلاقي-إشكال نفسي أو اختاروا الانسحاب. والإنسان حر في قناعاته يا سادة. المرفوض هو التحامل المجاني) الذين يسجلون حضورا نوعيا في النخبة المؤثرة في بعد من أبعاد المشهد المغربي الراهن. منهم كوكبة منيرة من أبناء الجنوب؛ و أعتز في هذا السياق أن من بين أنجب عناصرهم أبناء مدينتي تيزنيت.
في المسألة الفكرية و العلمية أنجبت مدرستنا أنجب التلاميذ بل قل الأساتيذ. أن يكون الأفاضل امحمد جبرون و الطيب بوعزة و رشيد الراضي و محمد همام.. ضمن قطارنا فهذا أمر حميد. و قد نختلف معهم و هو حق أكيد.

في هذه العُجالة التي جاءت بعد انفعال نفسي مع الأم (=مدرستنا). لم أقصد أن أذكُر مواليد مدرستنا الذين مازالوا يشتغلون تحت يافطتها و لهم آثار طيبة في أوساط المجتمع و هم فضلاء كُثر (و على رأسهم: الدكتور سعد الدين العثماني، الأستاذ عبد الإله بنكيران، الدكتور أحمد الريسوني، الأستاذ المقرئ الإدريسي أبو زيد)، و قد يأتي يوم نزور فيه تقديرنا لهم و ما يبدو لنا في آرائهم.

وإنما قصدي التعريج على بعض من لم يُشتهر في أوساط القواعد أنه كان هنا. و هذه الفئة شقت طريقا متميزا في المشهد المغربي في ناحية من نواحيه، حق لنا أن نفتخر بها مهما اختلفنا معها إن كنا واسعي الأفق و من أهل رحابة الصدر.

إن الحركات الاجتماعية المتغلغلة في الشعب ليس غريبا و لا عجبا أن تكون مأوى بل دافعا –و لو بشكل غير مباشر- لتشكُل النخب و الصفوة القائدة للمشهد الوطني. و عظمة حركتنا الرائدة (التوحيد و الإصلاح) تتجلى في أنها كانت مدرسة خرجت قادة الشعب المغربي، على أني أسجل في هذا الصدد أننا مازلنا في المرحلة الموالية للبداية يعني مازلنا نتحمل شرف و مسؤولية إيواء النخب وتخريجها (خاصة في المجال الفكري و الفني الذي أصبنا فيه بشبه تعقيم فيما مضى و بدأنا نتعافى منه).

إن المدرسة التي تستدعيها ذاكرتي دوما حين أذكر مدرستنا هي المدرسة الاتحادية التي لا تُقدر أفضالها على الشعب المغربي بثمن. إن المدرسة الاتحادية مدرسة الشهداء (المهدي، عمر..) و العمالقة (الجابري، العروي..) هي التي تغزو منتوجات خريجها الأسواق الثقافية المغربية. إنها ذات المدرسة التي قبضت على جمر “الإصلاحية” في زمن العنفوان الثوري في 1975 و لولاها بصدق لعشنا تاريخا آخر: و دائما أقدر أن مدرستنا تنحو نفس منحى المدرسة الاتحادية؛ تقبض على جمر الخط “الثالث”، تقديرا لمصلحة الوطن (و هو مجرد اجتهاد سياسي قابل لأخذ و الرد)، في زمن الحماس الثوري مع 2011. غير أن مدرستنا مازالت بحاجة إلى اختراق السوق الثقافي (و هناك مبشرات تعكسها أجيال شابة أغلبها خريجة العمل الطلابي لكنها مازالت محدودة بالنظر إلى المطلوب، أما بالمقارنة مع ما سبق فهي قفزة بلا شك) لتكون الوريثة بحق للمدرسة الاتحادية في انتظار وليد جديد و مدرسة أخرى.

و هنا أُسجل أن الحركة الأمازيغية بدورها مدرسة و مازالت ببريقها ساهمت أيضا في تخريج قادة في المشهد المغربي الراهن (على سبيل المثال؛ الأستاذ أحمد عصيد استقطب في نشاط ثقافي سنة 1982 و سنه 22 سنة: لا ريب أننا نختلف معه و قد نتفق معه في كثير من القضايا لكنه يبقى مساهما من المساهمين في صياغة المشهد المغربي المعاصر: نريد مغربا للجميع و لا يمكن إلا أن يكون كذلك و إلا سيتوقف التاريخ).

باختصار؛ إن المدارس الكبيرة من الحركات الاجتماعية هي التي تُخرج نُخب حقيقية. و مدرستنا (التوحيد و الإصلاح، و ما يدور في فلكها) مدرسة استثنائية معطاءة. علينا أن نتخفف من أثقال التاريخ المثخن بانفعالات نفسية لا غير، لنعتز بأبنائنا (على عقوق بعضهم لنا: لعله خير). والفكرة الجوهرية التي ينبغي أن يلتقطها الذي من مازال يقبل -على مضض- بالآخر المُختلف مفادها أن وجود المُختلف: العلام، بوهندي، عصيد.. هو سبب وجودي، و إذا انتفى هؤلاء و انعدم بعض المختلفين الآخرين، فما مبرر وجودي و ما مصيري سوى التهلكة ! إن التاريخ يعلمنا درسا بليغا: إنه يسير بفعل التفاعل بين المختلفين و “المتصارعين” و إلا فالحياة ستقف و ستصير بدون معنى. فالمختلف معي يُسدي لي خدمة جليلة في الحقيقة. و الله يتولى السرائر و هو حسيبنا نسأله الفردوس الأعلى لنا جميعا.