وجهة نظر

رأي نادر للراحل عمر بنجلون حول فلسطين والصهيونية (2/2)

جريدة “العمق” تنشر مقالا نادرا للراحل عمر بنجلون، حول القضية الفلسطينية.

الجزء الثاني والأخير:

2- عدم الاكتراث المستخف لما قبل 1967 ليس إلا نتيجة لعمل الصهيونية المباشر منذ 20 سنة

ثم إن الصهيونية لم تقتصر على الاستفادة من الوجود الاستعماري الجديد ونتائجه المباشرة على سلوك وتفكير أُطرنا، لأنها قامت وما فتئت تقوم بعملية تسميم مباشرة، واستطاعت أن تستثمر ظروف إفريقيا الشمالية الخاصة لبث اللامبالاة في جميع أشكالها إزاء الشعب الفلسطيني، كما عملت بعد 1967 على إقرار الالتباس والبلبلة. وهناك عاملان أساسيان ساعدا الصهيونية في عمليتها المباشرة هذه:

– من جهة، كون هذه العملية قامت عن طريق الأوساط الفرنسية المدعوة بـ”اليسار”، والتي كانت تدعم حركة الاستقلال الوطني.

– ومن جهة أخرى، عزلة إفريقيا الشمالية التي بقيت على هامش ظاهرة التحول الإيديولوجية والسياسية التي برزت في الشرق الأوسط بنشوء إسرائيل.

إن ردود الفعل التي أثارتها صيحة أحمد بن بلة: “نحن عرب، عرب، عرب”، توضح إلى أي مدى استطاع هذان العاملان أن يُنَوِّما إطاراتنا خلال عشرين سنة، وأن يزرعا فينا احتقار أنفسنا.

أ)- عمل الصهيونية المباشر بواسطة اليسار الفرنسي:

لنقتصر على تبيين تطور أساليب التسميم منذ إنشاء إسرائيل إلى غاية حرب 1967.

إن المرحلة الأولى، التي تلت الحرب العالمية الثانية، هي تلك التي شاع خلالها اعتبار إسرائيل كعنصر تقدمي إلى جانب الإمارات والأنظمة الإقطاعية والقروسطية. إن البلدان الاشتراكية نفسها تظاهرت بالاقتناع بسبب اعتبارات إستراتيجية ودبلوماسية جد معروفة. لم يكن هناك ما يمنع الأدب والصحافة المزعومَين من اليسار من التغني باستحقاقات “الاشتراكية النوعية” وعلى شكلها الخام المشخصة في الكيبوتزيم؛ فطالما انخدع بهذه الاستحقاقات طلبة إفريقيا الشمالية، نظرا لأن الفرصة لم تتح لهم ليتحققوا من الظروف التاريخية التي رافقت نشأة إسرائيل وكيبوتزاتها، التي ليست اشتراكيتها سوى التنظيم المادي الذي تستدعيه وظيفة الكيبوتز منذ إنشائه، إنه قاعدة لبث الصهيونية بالعنف، لا تَمُتُّ طرق تنظيمه بصلة مطلقا إلى “الاشتراكية”، أساليب للإنتاج والاستهلاك خاضعة للحاجيات العسكرية. كان لا بد لهذه القواعد من الاستمرار في انتظار أن تتهيأ فرصة إنشاء دولة إسرائيل حتى يتسنى تطبيق كل طرق التنظيم الخاصة بحياة الثكنة في بلد عن طريق الاحتلال. وما أن تمت العملية باحتلال فلسطين حتى بدأ محو مبدأ الاحتلال نفسه كشيء حتمي، فصُنع تبرير “الاشتراكية النوعية” المستلهمة من مبادئ داوود وعدل سليمان، ما أدى إلى استمرار خرافة تعاطف المعمِّرين ونكرانهم للذات.

إن تأميم قناة السويس وعمل هؤلاء المعمرين في صالح الاستعمار الفرنسي- الانجليزي المتخاذل في عدوان 1956 ضد الجمهورية العربية المتحدة، بيَّنا وجْه هذه الاشتراكية المزعومة ووظيفتها الحقيقية. أصبح تجاوز هذا الشعار ضروريا، وكذلك حجب الهدف الحقيقي للعملية الموجهة للنظام الوطني الوحيد الذي استطاع دَكَّ حُكم الإقطاع القروسطي وتبنى سياسة تقدمية. من هنا تبدأ المرحلة الثانية التي تشير إلى قدرة اليهود على تحويل الصحراء إلى جنة أمام هؤلاء العرب الجبناء العجزة، وبالتوازي مع الحملة حلول الأقليات اليهودية في البلدان العربية.

حين تقدم المهدي بن بركة بمشروع إنشاء مكتب لجامعة حقوق الإنسان في المغرب، استجاب رئيس الجامعة الدولية لحقوق الإنسان روني ميير، مشترطا أن يقوم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بفضح تحديد حق اليهود المغاربة في الخروج، وأن يطالب بمنحهم الجوازات بدون أي تمييز ودون أن يشار إلى “ديانتهم”.

ثم إن المثقفين اليهود المغاربة الذين يعتبرون أنفسهم مناهضين للصهيونية كانوا يقومون بحملة دائمة لتسيير الهجرة الضخمة، ملتمسين في ذلك عددا من “المبادئ”. كان لا بد للديمقراطية أن تكون محتومة في بلادنا، وأن يعاد النظر في كل جوانب سياسة التحرير حتى يُصَدر اليهود المغاربة بكل ديمقراطية، أكثر فأكثر إلى إسرائيل؛ المراهقون أولا ثم الشبان والآباء عبر مخيمات خاصة لتجميع المهاجرين. ولم يكن “المجاهد الأكبر” الديمقراطي في تونس في حاجة إلى تدخلات المجلس اليهودي العالمي أو إلى المساومة الأمريكية ليسمح، بل ليشجع هذا التصدير (ربما ليضايق جمال عبد الناصر).

إن المرحلة الثالثة لتكثيف الدعاية الصهيونية الموجهة ضد بلدنا، هي تلك التي رأت بورقيبة وأمثاله يُكثرون من التصريحات “الواقعية”، مقترحين الاعتراف بالواقع الإسرائيلي بعد أن ساهموا أنفسهم في تدعيمه بسلبيتهم المتواطئة أو بسياستهم النشيطة المتعاطفة مع الامبريالية. لم يكن الاستعمار السائد خلال هاته المرحلة هو اشتراكية الكيبوتزيمات أو عبقرية اليهود التي حولت الصحراء إلى جنة، إنما نُذيبه بضعف نستطيع تلخيصه

هكذا:

-حول الدولة العربية التي تضعف بسبب المصاريف العسكرية عوض أن تنكب على مشاكل “التخلف الاقتصادي”.- حول إسرائيل، هذه الدولة الصغيرة لمُشَيدين شجعان، المحاصرة بأعداء مسلحين من طرف موسكو.

لأن الأنظمة الإقطاعية بدأت تسقط الواحدة تلو الأخرى منذ عدوان 1956، أصبحت الامبريالية لا تستطيع أن تُملي على حكومات المنطقة سياستها، كما كان ذلك هو الشأن في الماضي، وعجز القادة الصهاينة عن تحويل مياه نهر الأردن بعيدا عن أي رد فعل.

في الواقع أن التهييء لعدوان 1967 والحملة التي تلته، بدءا قبل ذلك بسنتين، أمام تعدد الأنظمة التقدمية في الجمهورية العربية المتحدة، في العراق وفي الجزائر، التي طرحت لأول مرة المشكل الحقيقي؛ تحرير فلسطين من طرف الفلسطينيين أنفسهم.

غير أن الفلسطينيين لم ينتظروا أن يطرح هذا المشكل، لقد أطلقوا العنان للمقاومة المسلحة منذ فاتح يناير 1965، وذلك بنسفهم المراكز المهيئة لتحويل مياه نهر الأردن. ولكن أطر إفريقيا الشمالية كانت في ذلك الوقت لا تزال تعاني من الشعارات الصهيونية المشار إليها في ما سبق، خاصة أنهم كانوا يجدون فيها تأكيدا للحكم الشامل والمحتقِر المكوَّن لديهم حول بلدان، شعوب وقادة الشرق الأوسط.

– عدم تفهم الأحداث الداخلية في الشرق الأوسط بحكم بُعدها عن الشرق الأوسط، لم تُعان إفريقيا الشمالية من أحداث التغيير التي هزت الشرق الأوسط منذ 1948. نحن لا نعرف من هاته الأحداث سوى جوانبها الخارجية والسلبية، التي كانت تقدمها الصحافة الغربية المتعاطفة مع الصهيونية. تنقسم هذه الأحداث إلى ثلاثة تيارات:

أولها: ظاهرة الضباط الشباب الذين أدركوا وهم في جبهة فلسطين أن المسؤول الحقيقي عن نشأة إسرائيل هي إقطاعية الخونة الحاكمين، وهذا ما كان يعبر عنه الشعار المصيب “إسرائيل موجودة في القاهرة”. وبعد الاستيلاء على الحكم، وبعد مؤامرات عسكرية، بينما كان تكوينهم السياسي والأيديولوجي مازال ضعيفا، أراد الضباط المصريون الشبان، ثم الضباط العراقيون وكذلك السوريون، أن يجعلوا من القضية الفلسطينية قضية دولة وجيش رسمي. هكذا وقعوا في فخ العدو الذي تهدف كل مجهوداته إلى طرح المشكل كنزاع بين دول متجاورة، عسى أن يُطوى وجود الشعب الفلسطيني طي النسيان.

ثم إن نظرية الضباط المتمردين كانت تدفعهم إلى قبول وتشجيع التيار الفلسطيني، ولكن شريطة أن يكون تحت إشرافهم، وشريطة أن يختاروا بأنفسهم الساعة الحاسمة، هاته الساعة التي كان عليها طبعا انتظار وضع جيوش مدربة، الخ.

إن الحديث الثاني هو ظاهرة الإخوان المسلمين، التي فقدت أهميتها ولكنها كونت في ما بين 1948 و1960 تيارا قويا ونشيطا جدا. لقد طرح الإخوان المسلمون المشكل في إطار ديني، وكواجب ديني يقتضي معركة دائمة ولو غير منظمة، ولو يائسة؛ ودفعت تدريجيا التدابير التي كانوا يتخذونها إلى التصرف كعدو للحكومات حديثة العهد، وإلى تجاهل القضية الفلسطينية، ليمارسوا ضد هذه الحكومات العمل العنيف. إن هذه الحقيقة لم تخف على الإمبريالية التي وضعت “مساعديها الفنيين” تحت تصرف قادة الحركة الذين أضحوا عملاء وأَعيُناً للامبريالية، من المحيط إلى اندونيسيا.

إن الحدث الثالث هو ظاهرة “حزب البعث العربي الاشتراكي”، الذي حاول مُنشئه ميشيل عفلق أن يطرح المشكل الفلسطيني كجزء من معركة شاملة، إيديولوجية وسياسية على مستوى العالم العربي، والذي سيؤدي به التحول الاشتراكي إلى تحريره من الإقطاعية، من الصهيونية ومن الاستعمار. ولكن هذه الاشتراكية البعثية التي ترتكز على المجد القديم وترفض مبدئيا حقائق الاشتراكية العلمية، كان لا مناص لها من أن تنتظم في جمعيات ثورية متسترة، وفي خلايا شبه سرية تتصل بقطاعات اجتماعية محدودة، خاصة منها أوساط المثقفين والضباط؛ ولأنها كانت تقع كتيار على مستوى مجموع العالم العربي، عمل قادتها السوريون على بحث إمكانية إنشاء مكاتب بعثية في بلدان عربية أخرى.

عارضت هاته التيارات بعضها البعض، بينما اقتصر الشيوعيون العرب في ما يخصهم على فضح البورجوازية الصغيرة، الانتهازية، اليمينية أو اليسارية، وباستثناء العراق المجاور للاتحاد السوفياتي، بقوا على هامش الأحداث، خاصة أن دولتهم البلوريتارية كانت تتلخص في تبرير الدبلوماسية والإستراتيجية السوفياتية. ولكن رغم الجدل الحاد والمعارك التي دفعت بها إلى معارضة بعضها البعض، كانت هاته التيارات الثلاث تحارب الإقطاع، ولكل منها حصته في محو حكمه. إن تَيَقّظ وتضامن الحكومات الإقطاعية التي استمرت كان لا بد لها من أن يتشددا، وكذلك تحالفها مع الامبريالية.

لم نكن نهتم من كل هذا سوى بالجوانب الخارجية، بالجدال الحاد وبالتفرقة. زعموا أن هاته التفرقة تلازم دائما العقلية العربية، كما لو كان بوسع إقطاعي عميد الإمبريالية أن يلتحق بحركة تحررية. وبما أن الأطر الشمال-إفريقية لم تهتم إلا بالجوانب السطحية، فإنها اعتادت أن تحكم على الشرق بطريقة إجمالية، أن تخلط الشعوب والحكومات، أن تقتنع وأن تفرح لكونها “أحسن” عقليا ومختلفة عن عرب الشرق الذين “يعجزون” عن العقلانية وعن الديكارتية. في الواقع أن هذا العربي احترس من تخدير اليسار الفرنسي ومن ثقافة الاستعمار الجديد، المُجتمعين في ذات التضامن الفعال مع الصهيونية، موضوعيته أنه عاش المشكل الفلسطيني مباشرة، وهي أنه لم يتزعزع أبدا من ذاتيته الوطنية، والتي بدونها لا أحد يستطيع أن يفكر كوطني.

كان لا بد من حرب يونيو 1967 لتتم إعادة النظر في العديد من القضايا، ولكنها إعادة نظر جزئية كما قلنا. وأكثر من هذا غير ممكن، نظرا لقوالب الثقافة الرأسمالية الاستعمارية، لحملة التخدير الدائم الذي تقوم به الصهيونية، إما مباشرة، أو عن طريق اليسار الفرنسي، ثم نظرا لحقائق العالم العربي نفسها التي لا تهتم أطرنا إلا بمظاهرها الخارجية والسلبية.

إن انطلاقة المقاومة الفلسطينية ونُموّها أديا إلى إعادة تقييم الأفكار المتداولة، غير أن الشك لازال يهيمن على الأهم، بما في ذلك من عواقب وخيمة، ما دام الأمر لا يتعلق اليوم بتضامن فكري ومعنوي، ولكن بمعركة دموية ويومية.

3- عناصر الخلط الجديدة ونتائجها العملية الحالية

لقد أكدنا وبإلحاح على العناصر الأيديولوجية الثقافية الدائمة، التي تقرر سلوك أطرنا وتبين الجوانب التي لازالت الصهيونية تستطيع اغتنامها إلى حد الآن، ثم وضعنا الشعارات التي نَمَّتها الصهيونية عبر اليسار الفرنسي قبل 1967، والأسباب التي من أجلها لم تهتم أطر المغارب سوى بمظاهرها الخارجية والسلبية للحدث العميق والمطمئن الذي هز الشرق منذ الهزيمة الأولى 1947/1948.

أما الآن، فيتعلق الأمر بتحليل العواقب الحالية والمحسومة لهذا التخدير الإيديولوجي الذي دام عشرين عاما، ثم لنتساءل، لماذا تبقى الأغلبية الساحقة لأطرنا ذات الثقافة الفرنسية على هامش المعركة القائمة ضد الصهيونية وإسرائيل، وإن كانت تطرح مناقشات لانهاية لها تطوف حول أخطاء الماضي القريب والبعيد، حول التكتيك، وموازين القوى والحل وحظوظه، الخ.

المبدأ الحاسم للتحرير الذي يحمل حله ووسائله الخاصة:

كما قلنا، تمخضت عن حرب 1967 ثم عن نمو المقاومة الفلسطينية السريع (والمدهش) إعادة تقييم أهم المواقف؛ يتعلق الأمر بالتطور نفسه الذي عرفه الرأي العام العالمي والعربي، هذا التطور الذي زادت في سرعته مواقف إسرائيل المتحدية والصهيونية، كل في بلده. إن ما نسميه الأهم هو الخلط الذي يبقى حول الموضوع نفسه، لما اعتدنا تسمية المشكل الفلسطيني، أزمة الشرق الأوسط، النزاع الإسرائيلي- العربي. مادام هذا الخلط موجودا في فكر الإنسان العربي، فإن موقفه لن يستطيع أن يكون إلا مُضرا بالثورة الفلسطينية، الشيء الذي يفهمه الصهاينة وتفهمه الإقطاعية جيدا، إذ من ثمَّ مجهوداتهم المتآلفة التي تصبوا إلى تقديم أزمة الشرق الأوسط كنزاع بين دول مجاورة.

حتى نعطي فكرة ملموسة عن العواقب القريبة والبعيدة لهذا الخلط الذي يحرصون على استمراره، علينا أن ننطلق من القدوة الفيتنامية. إن كل من يساندون أو يزعمون مساندة الشعب الفيتنامي في حربه، لم يسمحوا أبدا لأنفسهم بمناقشة “واقعية” أو انتهازية قراراته، ويكتفي كل واحد بالتفرج على قرارات وتضحيات بطل الشعوب التي يلاحظون أنها ناتجة كلها عن الارتباط بالمبدأ الحاسم: فيتنام للفيتناميين، وإن أدى هذا إلى إفنائهم عن آخرهم. ويحتوي هذا المبدأ على الحل كما يحتوي على الوسائل والتضحيات التي يتطلبها هذا الحل، وأن المناقشة تقع حول الحلول العملية التي ينتظرها التنظيم وتطور المعركة ضد المهاجم. هاته الحلول المستلهمة من التجربة المكتسبة عن طريق معرفة وسائل وأساليب العدو، ولكن كذلك عن طريق الإيمان الراسخ بشرعية القضية التي تُقوي من إرادة الانتصار.

إن هذا المبدأ يحمل الحل ووسائل الوصول إليه. وحينما تصل المعركة إلى درجة معينة من النمو، ففي صفوف المهاجم تنشأ ثم تتعدد المناقشات حول “الحل”، حول طريقة الخضوع لحقوق الشعب المحارِب، مع الاحتفاظ بقدر ما من الكرامة. ينتشر آنذاك التنافر في وسط كل مُعتد، وتظهر خطوط الحدود بين (الحمام والصقر)، بين “الضمير الفرنسي والوجود الفرنسي”، بين “الضمير الصهيوني والوجود الصهيوني”. ولكن الحمام كان في ملكية المعتدي، إنه يفكر في مصالحه العليا وعلى المدى البعيد، وذلك هو شأن التيار التقدمي المزعوم المناهض للصهيونية، والذي يمثله رودينسون وآخرون. إن دَوْرَهُم هو أن ينقلوا نقاشا داخليا خاصا بمعسكر المعتدي إلى صفوف الضحية، صفوف العرب؛ وإنهم ينجحون في ذلك على الوجه الأكمل.

هذا ما سميناه معالجة المشكل بالمقلوب، أن نتساءل حول القضية، لا السارق ولكن ضحيته. إن الشعب الذي لا يعرف رودينسون ومجلة “عناصر”، لا يقع في مثل هذا الشَّرَك، ويتطوع ليحارب (سجل المغرب 14 ألف متطوع). هكذا فعل ذلك الطبيب المصري الذي استُشهد في حيفا وعمره 27 سنة، وهكذا فعل ذلك الأمير الكويتي الذي أدى به وعيه إلى درجة جعلته يهجر أولاده وأمواله والحريم، ليتلقى تدريبا وليتسلل إلى فلسطين بعد أن أقسم أن يموت هناك أو أن يعود حاملا معه جوازا فلسطينيا.

إن عبارة “فلسطين للفلسطينيين” تدخل في إطار الرأي القوي الذي لا يتزعزع، إنها المبدأ الحاسم الذي يحمل “الحل” ووسائل الوصول إليه. ليست مسألة الارتباط بمبدأ الذاتية الوطنية والكراهية نحو المعتدي وجريمته، التي من دونهما لن يكون المنطق والتحليلات التاكتيكية سوى طريقة أخرى لِبَثّ ثرثرة في معسكرات الضحية، تكون في صالح المعتدي. وهذه الثرثرة موجودة في وسط الأطر المغربية التي تحتفظ بموقف المتفرج، ولكن المتفرج المنتبه والقلق لأنه يعي أنه عربي، وأنه أضحى لا يخجل من عروبته.

“نحن عرب، عرب، عرب”، نحن لا نناقش، لا نطرح السؤال الذي يضعه الخطر الذي يهدد حياة إسرائيل على الصهاينة. نحن لا نناقش حل المشكل المطروح على المعتدي، إذ ينتظر من الثورة الفلسطينية أن تجزم حول هذا الحل. فلسطين للفلسطينيين بما في ذلك من العواقب التي تلازم تحرير بلد محتل. على المستعمر أن يقرر ذهابه أو بقاءه، أن يُخمن هل هو قادر أم لا على التكيف مع الوضع الجديد وما يتمخض عنه. لماذا سيكون المعسكر اليهودي المقيم في فلسطين مختلفا عن اليهود الذين أقاموا في الجزائر قبل هذا الوقت بمائة سنة ؟!

طبيعي أن الأوساط الليبرالية في أوربا الغربية، أن رجلا مثل جان بول سارتر؛ أرادوا أن يؤكدوا على تباين ما في الواقعية أو في “المنظور”، أننا بدأنا بالأسباب الفكرية والتاريخية التي يرفضون مراعاتها، حتى لا يتساءلوا هل هناك تناقض في تأييد “هوشي منه” و”موشي ديان”، اللذيْن يجسدان التحرر والاحتلال الاستعماري. وبينما برز التناقض ومعناه الحقيقي وأصبح ناضجا، كفاهم أن يعالجوا بعض المفردات وأن يتحدثوا عن “المشكل الفلسطيني” كأنه عنصر ثانوي في “أزمة الشرق الأوسط” في “النزاع الإسرائيلي-العربي” !

وبفضل نفوذهم الأدبي، استطاعوا أن يقيموا بيننا، بين أطرنا، نقاشا لا نهاية له حول “الحل”. يقولون مثلا إن الأمر ليس هَيِّنا كما هو الشأن في فيتنام، ذلك لأن فلسطين ليست فيتنام، ولأن العرب ليسوا بالفيتناميين. ليست لهم تجربة هؤلاء، غاباتهم، الخ. من جهة أخرى، إن الجنود الأمريكيين لا ينتظرون إلا يوم الذهاب وليس يهود فلسطين كذلك، إذ خلفهم البحر. ثم إن الفيتناميين لا يعانون لا من التدخلات ولا من التفرقة بين حكومات وأحزاب الشرق الأوسط، ومن هنا يبحث عن “الحل” عبر مشاكل الجامعة العربية وإستراتيجية الاتحاد السوفياتي، الخ.. إلى درجة أن المقاومة الفلسطينية تصبح “عنصرا جديدا” وليد حرب 1967، يغير المعطيات، يمنع حسين الأردن من التفاوض… تنشأ الدائرة المغلقة، ثم تتجسد في قمة اليأس، نعود بكل تؤدة إلى أمهات الأحكام التي صقلتها عشرون سنة من التخدير الفكري، ثم يربح كلٌّ ضميره بعزل نفسه في موقف المتفرج، المنتبه، ولكن القلِق.

لهذا ألححنا على أن حدث إعادة النظر الذي أقامته حرب 1967، والذي أسرع الخطو بسبب نمو المقاومة الفلسطينية، لازال جزئيا ولا يحيط بالأهم. مادام المبدأ الحاسم لا يَحُل محل إرث بأكمله، ما دمنا نبحث ونناقش حلولا غير الحل الذي يحمله المبدأ المذكور، سوف يبقى العربي عربيا بين التقدميين من أوربا، تقدميا من أوربا زج به في صفوف الغزاة. غير أن هذا الجانب ليس سوى الجانب الفكري للمشكل.

نتائج عملية:

لنوضح أولا أن الالتزام الفكري إلى جانب الشعب الفلسطيني ليس له من معنى عدا إذا أعقبه حد أدنى من المساهمة في جبهة الدعاية وفي جبهة تجميع الموارد المالية وفي العمل البالغ الخطورة قصد حصر المصالح والنشاطات الصهيونية في البلدان، حتى يتم فضحهم وتتسنى محاربتهم. إن هذا يطرح مشاكل ليست بالهينة من السياسة الداخلية. لنكرر أن درجة الالتزام إلى جانب الشعب الفلسطيني مرتبطة ارتباطا عضويا، إذ تكون جزءا لا يتجزأ من درجة الالتزام الفكري والعملي في التيار التحرري في الداخل والخارج (في بعض الأحيان يتعلق الأمر بمصالح تخاف من أن تتسلط الصهيونية على بعض قطاعات النشاط الاقتصادي لتسيطر عليها).

ولكن الارتباط بالمبدأ الحاسم في كل عمل وطني تحرري يحمل الحل ووسائل التحرر يتطلب في ما يخص فلسطين نظرية وموقفا شاملين إزاء الإقطاعية العربية عميلة الإمبريالية، والتي كانت سلبيتها المتواطئة السبب الحاسم في إنشاء إسرائيل. وأن نشير إلى أن حاكم الأردن الحسين حاول خلال مؤتمر القمة الإسلامي أن يَحُول دون ذكر مساندة حق الشعب الفلسطيني، أو أنه حاول أن يدفع بمندوب الشعب الفلسطيني إلى التدخل، ولكن من الكراسي المخصصة للأردن. أن نشير إلى هذا، معناه الاختيار بين معسكرين، بين نظريتين، بين نوعين من المصالح المتعارضة. إن معسكر الإقطاعيين وكل الرجعيين في العالم العربي، الذين جعلوا من حسين، غداة يونيو 1967، بطلا، وأفرغوا كل حقدهم على عبد الناصر، يجتهدون في تقديم “أزمة الشرق الأوسط” كنزاع بين دول مجاورة.

إن كل مجهودات إسرائيل تهدف إلى الوصول إلى مثل هذا التأثير، مثل هذا الشك، بالإكثار من العمليات أمام خط الحدود، مطالبة بمبدأ المفاوضة، الشيء الذي يؤدي تدريجيا إلى:

– عدم إثارة النقاش حول وجود المقاومة الفلسطينية، ثم تقديمها كشيء على الهامش، كعمل تكميلي لحرب الموقف أو حرب الأعصاب التي تقودها الجيوش العربية الرسمية. – تبرير ادعاءاتها المتعلقة بالمرتفعات الإستراتيجية وبالحدود الآمنة والمضمونة، وفي الوقت نفسه مطالبة الدول العربية المجاورة بأن تتقمص دور بوليس الصهيونية ضد الفلسطينيين، وإلا فلن تكون إسرائيل في حاجة إلى الاعتراف بها من لدن الدول العربية. – الإكثار من عمليات العنف على طول خط إيقاف النار في “عدوان موجه ضد الدول العربية” المقصود منه طمس حركة التحرير التي يقودها الشعب الفلسطيني.

هكذا لازالت الدول العربية تنخدع، إذ تقتصر “مطامحها” على تصفية “آثار العدوان” رغم أن هذا العدوان لازال قائما، ما يجعلها تبدو كمعتدلة أو واقعية.

إذا أضيف كل هذا إلى اعتبارات السياسة الدولية، إلى محادثات الدول العظمى وإلى إستراتيجية الاتحاد السوفياتي المعروفة، فإنه سيدعم الحقائق التي تعطي المعركة كل مظاهر نزاع قائم بين دول متجاورة. ومن ثم فإن دولة إسرائيل موجودة؛ إنها حرب مع الدول العربية المجاورة، ومازالت تتلقى من الإمبريالية ومن شبكة الصهيونية الدولية، من السلاح والمال ما يكفيها لمجابهة جيرانها. ولا ننسى أن الوضع الرهن يختلف جذريا عما كان عليه الأمر منذ أقل من ثمانية عشر شهرا، ذلك إن اقتصرنا على موازين القوى وعلى العلاقات الموجودة بين الدول. إن ميزان القوى يتحول بسرعة، كميا وكيفيا. لنتذكر فقط أن جيش الجمهورية العربية المتحدة، الذي لم يكن له وجود قبل السنتين الأخيرتين، احتل مكانه تدريجيا أحسن فأحسن في إستراتيجية هجومية.

ولكن سواء كانت الحرب حرب موقف أو حرب أعصاب، فإن تحرير فلسطين لن يتم على يد الجيوش العربية الرسمية، كما لا يخفى هذا طبعا على الجمهورية العربية المتحدة، على سوريا أو العراق والجزائر. وانطلاقا من المبدأ نفسه، فلا حكومات هذه البلدان ولا أي حركة تقدمية عربية تزعم أن الأمر يتعلق بمحو آثار العدوان، أي انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في عام 1967، وترك الشعب الفلسطيني لمصيره، وبالعكس إنهم يفضحون كل من يزعم ذلك أو يتحدث عن “تحرير الأراضي المقدسة” ليقول الشيء نفسه، ولكي يحجب في الوقت نفسه ميزة النزاع المناهض للإمبريالية.

على الشعب الفلسطيني أن يحرر وطنه بما فيه من الأراضي المقدسة. إن مساندته هي أولا الاعتراف له بحقه في تقرير الوسائل والأساليب التي ينوي كل عربي كواجب قومي ووطني. من ثمة لزومية الاعتراف للشعب الفلسطيني المطرود من أرضه بحقه في اعتبار كل شبر من الوطن العربي كقاعدة للإصلاح والتنظيم، المادي والعسكري، للحرب التي يخوضها. هذا يقتضي أن يطرح مشكل الرباط القائم بين تحرير فلسطين من طرف الشعب الفلسطيني والعلاقات الحربية التي تتجاذب فيها دولة إسرائيل والدول العربية المجاورة، كما يلي:

إن العدوان الحقيقي يكمن في وجود دولة إسرائيل نفسه. هذا العدوان الأول هو سبب النزاع الحالي (كيفما كان اسمه).

كان هذا العدوان ومازال جزءا من الإستراتيجية الإمبريالية المنفذة في الشرق الأوسط، لكي تنشئ فيه وضعا مستمرا ملائما لاستغلال الثروات البترولية.

بناء على ذلك، إن تحرير فلسطين يقتضي زوال دولة إسرائيل، أي حربا ضد الصهيونية على صعيد العالم العربي.

أن نطرح المشكل في هذا الإطار ليس بالتطرف ولا بالاعتدال، لا بالواقعية ولا بالمثالية، إنها مجرد الموضوعية الأولية التي تلاحظ حقائق لا جدال فيها، حقائق لم تناقش، وتقوم على ترديد بديهيات، ولكن بديهيات غير كاذبة.

إن نتيجة هذا قبل كل شيء هي التحرر من تلك التي مازالت مرتبطة بفكر الاستعمار الجديد والرؤية إلى الأحداث الداخلية في الشرق الأوسط، بدون الاقتصار على الجوانب الخارجية والسلبية.

لقد ألححنا طويلا لنُبين أن تحرير فلسطين، مجرد التحرير، يقتضي أولا تحرير الفكر، ما يفترض قبل كل شيء إعادة نظر شاملة للنظريات المرتكزة على الإيديولوجية التصويرية البورجوازية. وإجمالا، فإن مسؤولية الأُطر وسِلبيتهم تجاه القضية الفلسطينية جزء من موقف شامل، فكري وعملي إزاء حركة التحرير بصفة عامة.

اقرأ أيضا: الجزء الأول لمقال نادر لراحل عمر بنجلون حول فلسطين والصهيونية