وجهة نظر

سؤال المرجعية الإسلامية لحزب المصباح (2 من 4)

خلاصة المقال الأول أن حزب المصباح ليس حزبا دينيا كما يقدمه بعض الإعلام، ولا حزبا علمانيا كما يتهمه بذلك بعض المنتسبين إليه وبعض نشطاء المواقع الاجتماعية. وختمنا ذلك المقال بالسؤال، ماذا يعني أنه حزب ذي مرجعية إسلامية؟

وبداية لن نخوض في مفهوم المرجعية حاليا على أن نعود إلى ذلك لاحقا للوقوف على مدى تمثل ذلك المفهوم في حديث الحزب عن “المرجعية الإسلامية”. وسنقارب مسألة المرجعية في المقالات المتبقية من خلال وثيقة مركزية من وثائق الحزب وهي قانونه الأساسي على أن نقدم قراءة لاحقة لمختلف وثائق الحزب عند مناقشة مفهوم المرجعية. والذي فرض هذه المقاربة المستعجلة هي طبيعة “حملة” النقد غير الطبيعية الموجهة للحزب على هذا المستوى والتي يغيب فيها، على حد علمنا حتى الآن، عمل نقدي حقيقي.

وبالعودة إلى السؤال السابق نقترح الأفكار التالية لمقاربة الاجابة عنه.

في تعريف مقتضب للمرجعية سنكتفي في هذا المقال بالقول إنها تعني مستويين، الأول منظومة القيم والمبادئ والقواعد المؤسسة. والثاني المؤسسات والأشخاص. والمشترك بين المستويين هو “منهج الرجوع” إلى تلك المنظومة أو المؤسسات والأشخاص عند صياغة المنطلقات والرؤى والآراء والمواقف، أو عند مواجهة مستجدات أو مشاكل وتحديات. واعتماد حزب المصباح “المرجعية الاسلامية” يتعلق بالمستوى الأول فقط والمتعلق بنظرية العمل.

اعتماد “المرجعية الاسلامية” من طرف الحزب المؤسس بشكل قانوني يعني أولا أنه ينضبط للدستور الذي يؤكد من جهة، إسلامية الدولة وكون الإسلام من ” ثوابت الأمة الجامعة” التي تستند إليها في حياتها العامة. ومن جهة ثانية عدم دستورية تأسيس الأحزاب على أساس ديني. وهو ما يؤكده قانون الأحزاب أيضا. وهذا أساس متين تنتفي به الصبغة الدينية عن الحزب لتجعله حزبا مدنيا، وهي الصفة المثبتة في وثائقه وخطابه.

اعتماد “المرجعية الاسلامية” بمقاربة حزب مدني هو ما يضمن من الناحية المنهجية عدم الخلط بين المجال الديني، حيث تنشط مؤسسات الدولة المختصة وينشط الفاعل الدعوي، والمجال السياسي، حيث ينشط مختلف الفاعلين السياسيين الذين من بينهم الأحزاب. وقد بينا في المقال الأول كيف أن حزب العدالة والتنمية ليس حزبا دينيا ولا يتعاطى مع الحياة الشخصية للأعضاء والمواطنين، وتدينهم بالخصوص، وفق مقاربة دينية، لكنه يناضل من أجل تفعيل المرجعية الاسلامية للدولة.

البعد المدني للحزب نجده على مستوى تصوره للدولة وعلاقتها بالمجتمع وبالمواطن والذي نجد أنه لا يخرج أيضا عن مفهوم الدولة المدنية ذات المرجعية الاسلامية. وعلى مستوى برامجه الانتخابية التي يقارب من خلالها تصوره للسياسات العمومية. كما نجد ذلك البعد على مستوى منهج عمله حيث يتم تدبير العلاقات داخله، من خلال عدة عناصر يمكن إجمال أهمها في: أولا، عدم التمييز بين الأعضاء على أساس ديني أو عرقي أو لغوي أو اجتماعي أو مهني. ثانيا، المساواة بين الأعضاء في الحقوق والواجبات، وأن مواقع الأعضاء التنظيمية تحددها القوانين والمؤسسات على أساس قيم الكفاءة والاستقامة لنيل الثقة، والأقدمية كشرط ينظمه القانون. ثالثا، سمو القانون والمؤسسات داخل الحزب. رابعا، إعمال المنهج الديموقراطي في تولي المسؤوليات وحسم الخلافات.

لكن المفارقة أن هذا البعد المدني يجعله البعض مؤشرا على توجه الحزب ليكون حزبا علمانيا! وهذا “الانتقاد” يروجه إما أناس لم يستوعبوا مفهوم “الحزب المدني” ويحاكموا الحزب إلى صورة ذهنية لديهم عن الحزب الديني. أو أناس يهدفون إلى خلط الأوراق للتشويش على الحزب والمس بشعبيته في اوساط المتدينين سعيا نحو إفراغ اعتماده “المرجعية الاسلامية” من أي مضمون فعال.

إذا نظرنا في تاريخ “الدولة الإسلامية” على مر العصور سنجد أنها لم تكن دولة خالصة للمسلمين، بل كانت تضم اليهود والمسيحيين أيضا، وكانت تحفظ لهم حقوقهم الدينية كاملة، بما في ذلك تدبير أحوالهم الشخصية وفق معتقداتهم الدينية الخاصة بهم (مثل الزواج، الارث، …). كما تضم تلك الدولة مسلمين متباينين تباينا كبيرا في درجة تدينهم. وهناك اختلاف كبير حول درجة تدخل تلك الدولة في قضايا تدين مسلميها، بل هناك اختلاف حتى على مستوى حكم ردتهم عن الدين نفسه. وهو ما يعني أن الدولة الاسلامية لم تكن دولة دينية، بكل ما لتلك الكلمة من معنى، حتى في تعاملها مع المسلمين أنفسهم حيث “لا إكراه في الدين”.

صفة “إسلامية” الدولة لا تتناقض مع ضمها لغير المسلمين، كما لا تتأثر بحالة تدين المسلمين مهما بلغت من التدني. بل تتعلق بمستوى آخر يبدأ برفع الأذان وينتهي بالاختيارات الاستراتيجية المتعلقة بطبيعة المشروع المجتمعي، مرورا بالسياسات العمومية التي ينبغي أن تتسم بالعدل وتسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. وكمثال: لا تحاسب الدولة مواطنيها المسلمين على عدم التزامهم بالعبادات وفق ما يحفظ أمنها العام، لكنها ملزمة بتلبية حاجيات الأفراد والمجتمع الدينية، مثل الارشاد الديني وتعليمه، والتشجيع على التدين، وتوفير أماكن العبادة، وتوفير شروط حسن القيام بالشعائر الدينية…
الأحزاب المدنية ذات المرجعية الإسلامية، هي بدورها، كما سبق وبينا ذلك في المقال السابق، ليست خالصة للمسلمين، ولا تشترط التدين في الانخراط فيها، ولا تؤطر الأعضاء والمجتمع تأطيرا دينيا أو تراقب درجة تدينهم أو تكرههم عليه أو حتى دعوهم إليه رغم أنها تعتمد “المرجعية الإسلامية”.

والذي نخلص إليه مما سبق، وفي السياق الذي يثار فيه موضوع “المرجعية الاسلامية” للحزب اليوم، ثلاثة أمور. الأول، لا تناقض ولا تعارض في كون حزب المصباح حزب مدني وكونه ذي مرجعية إسلامية، هما وجهان متكاملان لا تعارض بينهما. والثاني، أن تلك “المرجعية الاسلامية” لا تخول الحزب المدني أية سلطة دينية على أعضائه حتى حين لا تتوافق آراؤهم ومواقفهم والمقتضيات الدينية، وأن سلطته لا تتعدى ما نصت عليه قوانينه من معايير سلوكية وأخلاقية عامة تتعلق بالعضو المنضبط لقوانين الحزب وقرارات هيئاته، والمواطن المستقيم على قيم “المعقول” كما نحثه المجتمع من خليط من القيم الدينية والحضارية. الثالث، ما يصدر عن هؤلاء الأعضاء، مهما انحرف عن الدين، لا يمس في شيء “المرجعية الاسلامية” التي يعتمدها الحزب. فتلك المرجعية كما بينا سابقا لا تصنعها تصرفات الأعضاء و لا تتأثر بها.

لكن ماذا يعني أن تكون للحزب المدني مرجعية إسلامية؟ وما الذي يميزه عن غيره من الأحزاب التي ليست لها تلك المرجعية؟ ومقاربة الإجابة عن هذين السؤالين في المقال الموالي بحول الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *