وجهة نظر

نداء “الإصلاح الديمقراطي” وخلفيات قراءة الحراك العربي

جزء 1

في متم السابع عشر من مارس 2017، يكون نداء “الإصلاح الديمقراطي”، قد أتم ست سنوات حُبلى بأحداث كبيرة ولحظات مهمة، على الصعيدين العربي والوطني. لقد كانت، بالفعل، أحداثاً ولحظات حاسمات واجهت فيها شعوب الأمة العربية/الإسلامية تحديات جسيمة ومشاكل بنيوية جمّة، هددّت الوجود العربي في ظل تزايد وطأة الأطماع الدولية والإقليمية في مقدرات الأمة وثرواتها. وهي الأطماع الاستعمارية التي ما فتئت تحيك الحيل و ترسم الخطط لتقويض أواصر الاستقرار الإقليمي وتعريض جسم الوطن العربي لمزيد من التفكّك والتشرذم.

وتنبعث قيمة هذا النداء من كونه شكّل إحدى المؤشرات النوعية على مقدار التطور الفكري والمنهجي لجزء من الحركات “ذات المرجعية الإسلامية”. وهو التطور الذي تنامى من خلاله وعي “الفاعل الإسلامي” بأسئلة اللحظة ورهانات المرحلة، بما يُراعي مستلزمات الانتساب الحضاري “للأمة العربية الإسلامية”، ويستجيب لمتطلبات الانتماء الوطني “للمجتمع المغربي”.

ومع أن هذا النداء قد حدّد معالم إطارٍ سياسيٍ واعدٍ يُرتّب لقواعد تفاعل “حركي إسلامي” مع انتفاض جماهيري غير متوقع، إلا أن نصيب اهتمام الباحثين و”الخبراء” به ظلّ متواضعاً. ويبدو أن منشأ ضآلة العناية البحثية بهذا النداء يرجع بالأساس إلى إهمال الهيئات الموقعة عليه، نفسها ابتداءً، لضرورة تثمينه والاحتفاء به. حيث لم تحرص على جعل ندائها للإصلاح موضوعاً للنقاش والتداول، وورشاً دائماً تتعهده بمزيد نقد وتقييم، تعميقاً لمضامينه وتوسيعاً لنطاق جبهة المساهمين فيه.

ولقد كانت الفعالية التي سبق أن نظمتها شبيبة العدالة والتنمية بمناسبة منتداها السياسي الأخير محطة أولية لتسليط الضوء على هذا النداء أملا في إعادة موقعة سؤال الإصلاح السياسي في العمق من الوعي الفكري والتصوري للشباب المغربي. خاصة وأن مسألة الإصلاح تبقى مسألة مفتوحة على ديناميات مجتمعية وتطلعات حضارية كبيرة، بما يستدعيه ذلك من نهج تعاطٍ شامل يستحضر تركيبية مسألة الإصلاح تفكيكاً لتشابكاته ولتعقيداته، والعمل على إعادة تركيبها في ضوء استحقاقات اللحظة التاريخية ومستجدات الراهن السياسي.

ستحاول هاته المقالة العاجلة، في حلقاتها الثلاثة، تجديد النظر في موضوع النداء بما هو إجابة قدمتها مجموعة من الهيئات المعنية بموضوع الإصلاح. إجابة انبنت على فرضيات فكرية وحركية مؤسسة على خلفيات نظرية ومنهجية أطّرت سلوك فاعل إصلاحي، ونَظَمَت مختلف قراءاته وتطلعاته واستراتيجياته وتموقعاته في الحال والمآل.

ولعلّه من بين ما يقتضيه تجديد النظر، هذا، ضرورة استرجاع موضوع النداء، بما هو أطروحة في الإصلاح، استرجاعاً نقدياً يعيد إحياء سؤال الإصلاح السياسي في علاقاته الوطيدة بموضوعات التجديد الفكري/الثقافي والشهود العمراني/الحضاري، وبما يتجاوز محدوديات الوعي “اليومي/الجزئي” بمجريات الشأنين العربي والمغربي؛ وكذا، يُجنّبنا أعطاب الإدراك “التقنوقراطي/الوقائعي” لمتغيرات المشهدين السياسي والاجتماعي.

أولا: “نداء الإصلاح” خلاصة قراءة منهجية للحراك الانتفاضي العربي

لا شك في أن الحراك العربي، لحظة اندلاع “ثورتي” الفل والياسمين بتونس ومصر، وبما شهده من زخم جماهيري غير مسبوق، قد شكّل فرصة تاريخية عبّر فيها الإنسان العربي عن أمله في أن يُصلح واقعه البئيس اجتماعيا وحضاريا، ويُعالج علل أزماته السياسية والاقتصادية.

وبالفعل، فقد كان هذا الحراك لحظة واعدة استعادت من خلاله الشعوب العربية جزءً من إراديتها وقدرتها على المبادرة إلى ممارسة حقّها التاريخي في التطوّر الاجتماعي بحرية واستقلالية، لتوفر لمواطنيها الظروف المناسبة حيث ينعمون بحظهم الإنساني في العدالة والحرية والعيش الكريم.

ومع ما عبّر عنه هذا الحراك من مقدار شوق الإنسان العربي للحرية وتوثب الأمة إلى استعادة ذاتها واستكمال مسيرتها، إلا أنه بقيَ حراكاً احتجاجيا لم ينته به المآل إلى ثورة متراصة الأركان ومكتملة القواعد. وأقصى ما يمكن التأكيد عليه، أنه ظل حراكا انتفاضيا استحثّ الذات العربية لمجابهة بعض أعراض الاستبداد ومظاهر الفساد، دون أن تتطور صيرورة هذا الفعل الانتفاضي لتتبلور ثورة كليةً على مجمل شبكة العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية “المشرعنة” لاستبدادية أنظمة التسلط. ذلك أن تفكيك هذه الشبكة يُعدُّ مقدمةً ضروريةً وشرطاً أساساً لنجاح أي مشروع نهضوي يرنو تشييد قواعدَ قيام نظام سياسي جديد منسجم مع المدركات الجماعية للأمة، ومتجاوب مع أسئلتها الحقيقية المستقبلية والمصيرية.

ولعلّ خطأ بعض التوجّهات السياسية الإصلاحية، بغض النظر عن إيديولوجياتها “الحداثية” أو “الإسلامية”، هي أنها استغلّت ما جرى عربيا دون أن تتبيّن حقائقه وتستجليَ مكنوناته، فَرَجَتْ منه ما كان لا يلزم أن ترجوه، وتعسّفت قراءته حتى يتسنى لها صياغة مضامينه في عبارات خطابية وشذرات فكرية جاءت مفارقة لواقع البنائية السوسيو-تاريخية للأمة العربية/الإسلامية وطبيعة مقوماتها القيمية والحضارية.

بيد أن الهيئات الموقعة على هذا النداء قد بدت واعيةً، مفهوميا ومنهجيا، ببعض سمات هذا الحراك ومضمراته، فلم تنجر وراء غوايات الإعلام وتصريحات “خبراء” قنواته التلفزية، فلم تُحمِّل حقيقة ما جرى في بعض الأقطار العربية أكثر مما يحتمل. وإنما واجهت واقع الحراك في لحظاته الأولى ببعض من التحفظ المنهجي اللازم، والذي تستدعيه قواعد الفهم المتوازن لما يجري من أجل حسن التعاطي معه. ولعلّ المتتبع ليوميات “الثورات العربية” قد يجد في كثير من الأحداث والوقائع ما يدعم هذا التحفظ المنهجي ويُبرّر افتراضاته.الشيء الذي مكّن هيئات النداء من تسكين هذا الحراك في سياقه الواقعي، وأتاحها القدرة على قراءته قراءةً صحيحة ومسؤولة.

ذلك أن قيادات تنظيمات “نداء الإصلاح الديمقراطي” قد استوعبت أنه بالقدر الذي عبّر فيه هذا الحراك عن الحاجة الملحة للشعوب العربية في ديمقراطية قويمة وتنمية مستدامة أصيلة، بالقدر الذي كشف الحجاب عن عدم توافر القابلية المجتمعية الكافية والرؤية الفكرية الواضحة لنَظْمِ وترشيد نضالات الشعوب العربية لإصلاح واقعها إصلاحا بنيويا جذريا، أو قل “ثوريا”.

هكذا، جاء تفاعل أصحاب نداء الإصلاح مع هذا الحراك المبارك تفاعلا متوازنا يستثمر عناصر الأمل فيه، دون أن يعلّق عليه آمالا مفصلية لا يطيقها أو يُعبّر عنها. إيمانا منها بأن مسار إصلاح واقع الأمة ومداواة أعطابها هو مسار طويل وشاق، يفترض تواطؤ الجهود وتظافرها في أفق إرساء السبل الكفيلة التي تؤهل الأمة للتصدي للأسئلة التي تعوق استئناف دورها التاريخي، ويُمكّنها من مواجهات التحديات التي تحول دون اضطلاعها بوظيفتها الحضارية.

(يتبع)